اجتماعي

بين المربوعة والهاشتاق: المجتمع الليبي في زمن التحوّل الافتراضي

بين المربوعة والهاشتاق: المجتمع الليبي في زمن التحوّل الافتراضي

بين المربوعة والهاشتاق: المجتمع الليبي في زمن التحوّل الافتراضي

 

يشكّل المجتمع الليبي حالة فريدة في المنطقة، متأثراً بعوامل تاريخية وثقافية ودينية متداخلة، إلى جانب تحولات اقتصادية واجتماعية متسارعة. لطالما كانت القبيلة والمربوعة والنسيج الاجتماعي المباشر هي الركائز التي يقوم عليها التواصل، وكانت هذه الأسس توفّر للفرد شعوراً بالانتماء وتتيح له مساحة للتعبير، وإن كانت محدودة بالسياقات التقليدية.

غير أن دخول الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقدين الماضيين أوجد واقعاً موازياً بات يشكّل جزءاً أصيلاً من الحياة اليومية، خصوصاً لدى فئة الشباب. اليوم، أصبحت المنصات مثل فيسبوك، وواتساب، وتيك توك، وإنستغرام، ليست فقط أدوات تواصل، بل فضاءات بديلة للمربوعة، حيث تُناقش القضايا الاجتماعية والسياسية، وتُبنى التصورات، وتُطلق الأحكام. المؤثرون الجدد، الذين غالباً لا يمتلكون أي خبرة حقيقية أو خلفية معرفية، أصبحوا بمثابة شيوخ العصر الرقمي، يوجّهون الرأي العام، ويوزعون التصنيفات، ويحددون من هو “وطني” ومن هو “خائن” بحسب تفاعل متابعيهم.

لم تعد المسألة مجرد آراء شخصية، بل تحوّلت إلى أدوات ضغط وتوجيه، تصل في بعض الأحيان إلى تهديد السلم الاجتماعي، حين يتحول الخلاف الافتراضي إلى تحريض حقيقي على أرض الواقع. في هذا السياق، أصبح من الممكن أن يلمع اسم قائد تشكيل مسلح، لا بسبب أفعاله على الأرض، بل لأنه حظي بدعم مؤثر رقمي يملك جمهوراً واسعاً. نشاهد فيديوهات تُظهر هؤلاء كمنقذين، يتم تصويرهم وهم يُصلحون طرقاً أو يُوزعون مساعدات، بينما في الخفاء تُمرَّر صفقات مشبوهة وغسيل أموال يُغلف بمشاريع “تنمية مكانية” وهمية.

هذه الصورة المصطنعة تصبّ في خانة تزييف الوعي، وهي أحد أخطر أوجه الافتراضية التي بدأت تتغلغل في المجتمع الليبي.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، بدأت الهوية الليبية نفسها تتعرض لإعادة تشكيل غير واعية. فالشاب الذي كان يتربى قديماً على قيم العائلة والمربوعة وأعراف القبيلة، صار اليوم ينهل معاييره وسلوكياته من شخصيات رقمية أغلبها مفصول عن الواقع الحقيقي. لم تعد مفاهيم الشرف والانتماء والوطنية تُنقل من الجد إلى الحفيد عبر جلسات السمر، بل باتت تمر عبر منشور سريع أو تحدٍّ تافه على تيك توك. هذا الانقطاع بين الموروث والواقع الرقمي أوجد جيلاً متذبذب الهوية، مشتت الولاء، تتقاذفه أمواج الانفعالات الإلكترونية السريعة، مما يزيد من هشاشة المجتمع ويجعله أكثر عرضة للاختراق، سواء من الداخل أو الخارج.

ورغم كل هذا، فإن تأثير هذا التحول ليس موحداً أو شاملاً. ففي المدن الكبرى، حيث الإنترنت متاح بشكل أفضل، نلاحظ سيطرة شبه كاملة للفضاء الرقمي على حياة الأفراد، بينما في المناطق الريفية، لا تزال العلاقات التقليدية أكثر حضوراً. كذلك، هناك فجوة بين الأجيال: فالشباب يعيشون أغلب تفاصيل حياتهم داخل الشاشات، بينما لا يزال كبار السن يفضلون جلسة المربوعة واللقاء الوجهي.

هذا التباين يُعمّق فجوة التواصل، ويُصعّب طرح القضايا المشتركة بطريقة متوازنة. لا يمكننا أن ننكر أن وسائل التواصل أتاحت مساحة جديدة للتعبير، خاصة في ظل انسداد الأفق السياسي وغياب الحريات، لكنها في الوقت ذاته خلقت نوعاً من الفوضى المعرفية والانفعالية. الأخبار الكاذبة تنتشر بسرعة، والحقائق تختلط بالرأي، مما يؤثر على مزاج المجتمع العام، ويخلق حالة من التوتر والانقسام. اليوم، نعيش في مرحلة رمادية، حيث لم نعد مجتمعاً تقليدياً تماماً، ولا أصبحنا مجتمعاً افتراضياً بالكامل. 

نحن عالقون في حالة “نصف افتراضية”، يمتزج فيها الرقمي بالتقليدي، وتتنازع فيها السلطة بين شيخ القبيلة ومؤثر تيك توك، بين جلسة المربوعة وقروب الواتساب. هذه المرحلة تتطلب وعياً عالياً، ومسؤولية فردية وجماعية، لأن الخطر لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في طريقة استخدامها وتوظيفها.

أيها المواطن، لا تكن مجرد متلقٍ لما يُملى عليك عبر الشاشات. فكّر، تحقق، اسأل، ناقش. لا تسمح للمهرجين أن يصوغوا وعيك، أو أن يحشروك في تصنيفاتهم الضيقة. قاطع من يبيعك الوهم، ويغلف السرقة بالشعارات الرنانة. لأنك إن لم تفعل، فقد تجد نفسك بعد سنوات في مجتمع مشوّه، لا تدري كيف صار هكذا، بينما الحقيقة كانت تمر أمامك كل يوم، على هيئة فيديو قصير أو تعليق منسق