تكرر الأحداث وازدواجية المعايير.. (من اللي يقول للصيد فمك أبخر؟)
تتكرر في ليبيا منذ سنوات طويلة نفس الأحداث، أحيانا بنفس الخطوات والصيغ وحتى التداعيات، ولكن المتغير –المتكرر أيضا- هو طريقة التعاطي مع هذه الأحداث المتكررة.
فطريقة التعاطي –سواء الرسمي أو الإعلامي أو حتى الشعبي للأسف- تحكمها دائما قيمة ثابتة، هي الموقف من فاعل الفعل ومن يقف وراء الحدث، فنجد وسائل إعلام تتبع تيارا معينا تضخم حدث اختطاف مواطن في مناطق نفوذ خصومها، ثم لا تتحدث عن حوادث اختطافات واغتيالات وغيرها في مناطق نفوذ أولياء نعمتها، وترى بيانا حكوميا تصدره إحدى الحكومات ينتقد تصرفا قام به موالون لخصومها، بينما تخرس هذه الحكومة أمام انتهاكات يرتكبها موالون لها؛ أحيانا باسمها، ونرى الشعب في وسط ذلك يدور في نفس الفلك، فالنقد يوجه حصريا للخصوم، أما في مواجهة انتهاكات وجرائم الموالين فالصمت قد يبدو جيدا أمام حملات التجويز والتبرير التي تقودها عادة الصفحات الممولة والمدعومة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولسان حال الجميع يقول (من اللي يقول للصيد فمك أبخر).
ما دعا لهذا الحديث هو حدث مهم جدا حدث منذ ما يزيد عن 48 ساعة، وكالعادة تباينت ردود الفعل حوله من كل ألوان الطيف الليبي، فكل يبكي على ليلاه.
الحدث هو إغلاق حقل الشرارة في جنوب غرب البلاد، أكبر حقول البلاد وأكثرها إنتاجا بما يزيد عن ثلاثمائة ألف برميل يوميا، حتى يوم السبت السابق لإغلاقه، إغلاق هذا الحقل أو غيره حدث تكرر كثيرا خلال السنوات الماضية، حتى أن الحديث عنه أصبح رتيبا ومملا لكثرة تكرره، ولكثرة المسؤولين عنه، ولكن الملفت للانتباه هذه المرة هو طريقة التعاطي الإعلامي والرسمي والشعبي مع الحدث، خاصة في إقليم سيطرة المسؤولين عن الإغلاق، وكأن الحدث جديد عليهم فلم يعرفوا طريقة مناسبة للتعليق عليه.
أقفل حقل الشرارة هذه المرة ليل السبت الموافق 3 أغسطس 2024، وتقول الأخبار القادمة من هناك إن المسؤول عن الإغلاق هم المسلحون التابعون لقوات خليفة حفتر الذين يسيطرون على معظم أجزاء المنطقة الجنوبية، والسبب هذه المرة ليس جهويا أو نفعيا، بل هو انتقامي؛ فتؤكد الأخبار أيضا أن من أعطى أوامر الإغلاق هو آمر القوات البرية في جيش حفتر، صدام خليفة حفتر، حيث عاد الرجل مؤخرا من إحدى رحلاته التسويقية –من الواضح أن الرجل يسوق نفسه لمنصب أكبر مما يشغله الآن-، والمميز في هذه العودة أنها كانت على عجل حسب بعض المصادر الإعلامية، حيث تلقى صدام في رحلته الأخيرة إلى إيطاليا أخبارا من أصدقائه الإيطاليين مفادها صدور أمر قبض بحقه من قاضي تحقيق إسباني يحقق في قضية تهريب نفط ليبي إلى أوروبا، وتقول المصادر أيضا إن الإيطاليين نصحوا صدام بسرعة العودة إلى ليبيا والعمل على حل مشكلة مذكرة القبض.
عاد البطل وقاهر الإرهاب إلى البلاد وبدأ في إجراءات حل المشكلة بالطريقة الوحيدة التي يحسنها، الابتزاز السياسي وأخذ الرهائن، وماذا عساه ان يرهن من الإسبان وكيف يبتزهم، تفتقت العبقرية الفذة لأحد مستشاريه عن فكرة إغلاق حقل الشرارة الذي تشغله شركة ريبسول الإسبانية، متوهما أنه سيلحق ضررا بدولة إسبانيا تضطرها إلى إبطال مذكرة القبض، ناسيا أو متناسيا أو جاهلا أن حصة الشركة الإسبانية من أرباح إنتاج الحقل هو 12% فقط حسب بيانات مؤسسة النفط وأن حصة ليبيا هي 88%، أي أن الطرف المتضرر من تصرفاته هو ليبيا لا إسبانيا، فانطبقت عليه الأغنية الشعبية (يلعب بالنار حرق روحه!).
لن نطيل التعليق كثيرا على الحدث وتداعياته لأن تكراره أصابنا بالملل، ولكن لننظر إلى طريقة التعاطي معه على كل المستويات، ولنبدأ بالمستوى الرسمي وسنقسمه إلى ثلاثة جوانب أولها السياسي، حيث سارعت الحكومة في طرابلس إلى التنديد بالإغلاق ووصفته بالابتزاز السياسي وذلك بعد ساعات فقط من إغلاق الحقل، بينما عودتنا الحكومة بصمت القبور المطبق عندما يحدث أمر مشابه في مناطق نفوذها أو من موالين لها، وتتحول لهجتها من التنديد والاتهام إلى استدعاء الحكمة وصوت العقل.
على الطرف الآخر لم تصدر حكومة الشرق أي بيان بالخصوص، ولم تشر إلى الحدث بأي إشارة لا من قريب ولا من بعيد وكأنه لم يحدث في مناطق نفوذها، مع أنها عودتنا أن تعلق حتى على المشاكل العائلية في مضارب حكومة طرابلس؛ فلماذا لا تعمل الحكومات نفس المعايير للتعاطي مع نفس الأحداث؟
على الجانب الاقتصادي؛ عودتنا المؤسسة الوطنية للنفط على إصدار بيانات التنديد الفورية بعمليات الإغلاق السابقة، والمطالبة بتجنيب قوت الليبيين التجاذبات والصراعات السياسية، كما عودتنا أيضا إعلان حالة القوة القاهرة على إنتاج الحقل فور إغلاقه لإيقاع مزيد من الضغط على المسؤولين عنه، هذه المرة طال صمت القبور مؤسسة النفط فلم تعلق على إغلاق النفط، لم تنكر أو تندد أو تطالب بحماية قوت الليبيين، بل ولم تعلن حتى حالة القوة القاهرة؛ فلماذا يا ترى؟
آخر جوانب المستوى الرسمي؛ الجانب القانوني، في السنوات الأخيرة دخل النائب العام بقوة على خط الصراعات الجانبية بين أطراف النزاع وأهمها إغلاقات النفط، حيث قام في أكثر من مناسبة بفتح تحقيق رسمي، وتحريك دعوى جنائية ضد المسؤولين عن الإغلاق إعمالا لحقه الأصيل في هذا الشأن، ولكن اللافت هذه المرة أن النائب العام لم يعمل حقه للدفاع عن حقنا، ولم يحرك دعوى جنائية ضد المسؤولين –وهم معروفون- فلماذا يا ترى.
على المستوى الإعلامي شاهدنا ثلاثة مستويات من التعاطي، المستوى الأول؛ ويمثله وكلاء الخصوم السياسيين لخليفة حفتر، فقد نقلوا الخبر بعد حدوثه بوقت قصير جدا، واتهموا صدام حفتر بالاسم وبدون مواربة أو تورية، وكان موقفهم التنكير والتنديد والمسارعة إلى الاتهام، والقفز على الأحداث والوصول إلى استنتاجات وتداعيات لم تحصل بعد وقد لا تحصل أبدا.
والمستوى الثاني، ويمثله قنوات ومواقع إخبارية شهيرة تلعب على وتر التوسط والاعتدال وتدعي عدم الميل مع أي كفة، تأخرت هذه القنوات في نقل الخبر بزعم التثبت، وعندما نقلت الخبر؛ نقلته بصيغ فضفاضة عائمة، كأنه غير ذي أهمية، فقالت إن المسؤول عن الإغلاق (مجموعة لم تعلن عن نفسها حتى الآن) أو (مسلحون مجهولون)، وحتى عند اضطرارها لذكر اسم المسؤول الرسمي؛ فإنها نقلته بما يعرف بصيغة التمريض، أي أنها نسبت الاتهام إلى غيرها وأخلت مسؤوليتها عنه، رغم أنها كانت تهاجم بشدة المسؤولين عن الإغلاقات السابقة.
أما المستوى الثالث، والذي تمثله قنوات وإعلاميو القيادة العامة، وبعض المواقع المحسوبة على النظام السابق والتي مالت إلى معسكر حفتر، وبعض أشهر المدونين وصناع المحتوى في فيسبوك وغيره، فقد فعلوا وضع (اعمل نفسك ميت) فبعد تشنيعهم بالمسؤولين عن الإغلاقات السابقة، واستخدامها كأداة للإساءة إلى خصوم حفتر واتهامهم بالعجز عن إدارة مقدرات البلاد والحفاظ على ثروتها وقوت أبنائها؛ فوجئنا اليوم بصمت مطبق من طرف هؤلاء جميعا وكأن ما حدث لا يعنيهم، لم يذكروا الخبر أو ينشروه أو يعلقوا عليه، وكأنه لا يضر بمقدرات البلاد ولا يؤثر على ثروتها وقوت أبنائها، فلماذا تتغير مبادئ هؤلاء حسب الموقف، أو فلنقل حسب من يدفع؟
(المبادئ لا تتجزأ) عندما تخوض في أمر ما مدعيا أن ما دعاك للخوض فيه هو مبادئك، ثم تمتنع عن الخوض في أمر مشابه تماما وكأن مبادئك لم تتأثر هذه المرة؛ فاعلم أن المبادئ بريئة منك ومما نسبته إليها، فبالمبادئ لا تتجزأ، المبادئ لا تعمل في جهة وتقف في جهة أخرى، المبادئ لا ترفض الأمر أو توافق عليه بناء على هوية فاعله، وإذا كان إغلاق حقل الشرارة أو غيره جريمة غير مبررة في حق ليبيا والليبيين، فالفاعل مجرم سواء كان مجموعة مسلحة أو مليشيا قبلية أو ابن صاحب الجيش.