السياسي

هل عاد الليبيّون إلى تاورغاء.؟

 هل عاد الليبيّون إلى تاورغاء.؟

 هل عاد الليبيّون إلى تاورغاء.؟ 

 

وسط المدافع والصواريخ  والتهجير والتعرُّض للخطف الإخفاء القسري والتعذيب وفقدان الأهل والأصدقاء؛ فقدَ معظم التاورغيّين الذين عاشوا سنوات عجافًا مع النزاعات والنزوح فى المخيمات والشتات والحروب، أحلامهم ومستقبلهم، متذكرين أحداثًا مؤلمة لا يمكن نسيانها مع مرور الوقت، حيث لا تزال الذاكرة التاورغية متأثرةً بأحداث العشرية السوداء، إضافةً إلي الممارسات التي خلّدت هذه الذاكرة فى نفوسهم.

ولا تزال أثار الندوب التي خلّفها عقدٌ من الزمن متباينةً في شوارع المدينة، حيث تٌري فى المنازل المدمّرة والبنية التحتية المتهالكة، وتُري كذلك فى ثقوب الجدران المحترقة التي رسمتها الرصاصات والقذائف والنيران والمخلّفات التي تٌرمي في المدينة ليومنا هذا مكوّنة مشكلةً بيئية.

 

ذاكرة مفعمة بالألم

إنّ إخلاء المخيّمات وإيجاد حلّ جذريّ  كامل لحالة المخيمات والنازحين فيها كان أمرٌ ضروريٌ وواجب علي كلّ من تهمه الحالة الإنسانية وخاصّة الدولة الليبية، ولكن ما تم التعامل معه في  مخيّمات المهجّرين والنازحين داخلياً ( مواطنو تاورغاء ) لهو أشبه بتهجيرٍ قسريٍّ ثانٍ خاصةً مع استعمال القوة فى إقفال هذه المخيمات دون مراعاة للحالة الإنسانية ودون وجود حلول بديلة حقيقية.

إنّ الإخلاء القسري هو "الإبعاد الدائم أو المؤقت للأشخاص و/ أو أسرهم و/ أو المجتمعات المحلية، من المنازل و/ أو الأراضي التي يشغلونها، ضد إرادتهم وبدون توفير أشكال مناسبة من الحماية القانونية أو غيرها من أشكال الحماية الأخرى، ومن دون إمكانية الوصول إلى الحماية" (اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 7).

مخيّمات المهجّرين والنازحين داخلياً فى طرابلس تعرّضت لإخلاءٍ قسريٍّ، من قبل الأجهزة الأمنية التي تتبع الحكومة الليبية وبمباركتها أيضاً حتي يقلّ العبء والضغط علي الحكومة  دولياً فيما يخصّ هذا الملف من الناحية الإنسانية أولاً، ولما له من صلّة أخري بملف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية من ناحيةِ أخري، والذي بدوره إن لم تتخذ الحكومة إجراءات واقعية في هذه الملفات وخاصة إنهاء حالة المخيمات والنازحين داخلياً، فإن ذلك  سيُظهر العجز الحقيقي التي تعاني منه الحكومة الليبية فى إدارة هذه القضية دولياً.

مخيّمات طريق المطار والفلاح 1 و2 والدعوة الإسلامية أمثلة علي هذه الإخلاءات القسرية التي تمّت تباعاً، و تمّ الانتهاك الواضح فيها لحالات حقوق الانسان من دمارللممتلكات واستعمال السلاح والمدرعات للتخويف والترهيب من اجل الإخلاء، كلّ هذه المشاهد أعادت للتاورغيّين ذلك المشهد الذي انقضي عليه عقد تام من الزمن، وظهرت فيه كل الممارسات العنصرية التي عاني منها التاروغيّين أثناء نزوحهم خارج مدينتهم، بل زاد الطين بلّة بأن الدولة الليبية نفسها لاعباً أساسياً فى هذه الإنتهاكات وممارستها التمييز العنصريّ بالتعامل مع المهجّرين والنازحين داخلياً علي أساس غير مبني علي المواطنة، فى ظلّ صفقات سياسية وأكاذيب ووعود واهية من أجل إنهاء هذا الملف ودون الإلتفات للإحتياجات الرئيسية والأساسية للمهجّرين والنازحين داخلياً والاستماع لمطالبهم فيما يخصّ العدالة وجبر الضرر.

طريق العودة!

المشكلة  ليست فى رجوع حوالي 45 ألف شخص بعد تهجيرهم ونزوحهم الذي دام ما يزيد عن 10 سنوات عن منازلهم ومدينتهم، بل في التبعات المترتبة على ذلك التهجير والعودة معاً، لا سيما  فى ما يتعلق بحالة  جبر الضرر ومسألة العدالة الإنتقالية وكذلك إعادة الإعمار، ومن جهة أخري  حالة عدم التوازن الديمغرافي وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية.

فى حقيقة الأمر ليس هناك ما يوحي بعودة قريبة للوضع الديمغرافي الذي كان عليه قبل التهجير، فبعد توقيع اتفاق العودة كما يطلق عليه أهالي المدينة بين تاورغاء ومصراتة عادت بعض الأسر تباعاً إلي أماكن سكناهم التي أكلت عليها كل أنواع الأسلحة وشربت، حيث يبلغ عدد الأسر العائدة إلي تاورغاء حسب الإحصائيات حوالي 2000 اسرة، كما أنّ هناك عدداً كبيراً لم يتمكن من العودة حتى الآن، بسبب الخراب الذي حلّ بالبنية التحتية، وفقر الخدمات والإمكانيات المعيشية، وغياب فرص العمل وصعوبة كسب لقمة العيش وحجم الدمار الذي لحق بالوحدات السكنية، إضافة إلى تعثر عودتهم بفعل الضغوط والحسابات السياسية، كل ذلك يجعل من فرص إعادة التوازن الجغرافي للمدينة إلى سابق عهده صعبة المنال، وهو ما يعني أن أزمة العودة الحقيقية للتاورغيين إلي مدينتهم نحو مزيد من التعقيد، في وقتٍ تعيد فيه المدن والتجمعات السكنية تشكيل نفسها.

ليس هناك ما يدعو للشكّ أن ما يحدث من معالجة لقضية عودة الليبيّون إلي تاورغاء اليوم، بإخلاء المخيمات بهذه الطريقة القسرية وإدماجهم قسرياً فى أماكن نزوحهم هو مسألة تغيير ديمغرافي من قبل الحكومة، إضافةً إلي عدم تضمين المدينة فى ملف إعادة الإعمار للمناطق المتضررة من النزاع، والسبب الذي جعل الكثير من أهالي تاورغاء بعدم التفكير جدياً فى العودة نتيجة الأسباب التي ذكرتها أنفاً.

تهميش وانعزال

في أغسطس من العام 2021، خصصت حكومة الوحدة الوطنية 2.250 مليار دينار لصالح صندوق الإعمار، بموجب القرار رقم 1300 لسنة 2018 ، وتم تقسيم هذه المخصصات  علي نحو 750 مليون دينار لصندوق إعمار جنوب طرابلس وسهل الجفارة، و 750 مليون دينار لصندوق إعمار مدينتي بنغازي ودرنة، و500 مليون دينار لصندوق إعمار سرت، و250 مليون دينار لصندوق إعمار مرزق.

ومنذ أيام قليلة أيضاً قررت الحكومة الموقرة تخصيص حوالي 50 مليون دولار أي ما يعادل  250 مليون دينار ليبي تقريباً كدفعة أولي لإعادة اعمار جنوب تركيا إثر تعرضها لسلسلة زلازل أودت بحياة الكثيرين ودمرت منازلهم ومصالحهم.

اليوم يقطن بتاورغاء حوالي 2000 أسرة قاموا بصيانة منازلهم صيانة بسيطة حتي يستطيعوا العيش فيها، حوالي 120 أسرة لازالت تخيّم فى تجمعات أشبه بالمخيمات داخل المدينة نتيجة عدم مقدرتهم علي الصيانة أو للدمار التام لمنازلهم، و مع الممارسات القمعية من الحكومة الليبية لإخلاء المخيمات بصورة قسرية، لم تسارع أيضاً للإلتفات إلي الزلزال الذي حلّ بتاورغاء رغم استجابتها السريعة لزلزال تركيا، ولم  تصدر قرار بإنشاء صندوق إعادة اعمار للمدينة المنكوبة وكان نصيبها من هذه الأموال المتطايرة صفر نظراً لأسباب لا تعلمها إلّا الحكومة وهذا مؤشرُ واضح يُشير بأصابع الإتهام للحكومة فى مسألة التغيير الديمغرافي للمدينة والتي لا أريد الخوض فيها، وهو مؤشرٌ صريحٌ أيضا للتمييز العنصري الذي تمارسه الحكومة الليبية الفاضلة اتجاه أهالي تاورغاء باستمرار تهميشهم  وعزلهم عن مهرجان الإعمار والأموال السائبة.

يقول المثل الليبي " نخلنا مليان عراجين,, امغير بلحنا للأخرين".!  مواطنو تاورغاء اليوم  مدركون إدراكاً تاماً لكيفية تعامل دولتهم مع قضيتهم، وعلي وعيّ بأنّ الحكومة الليبية علي استعداد تام لتقديم المساعدات، بلّ والبناء وتسخير كلّ مقدرات البلاد لإعمار مناطق أخري غير ليبية علي حساب بقاء الليبيّون في عازة،  وعلي مواطنيها الصبر والدعاء والصلاة .

إنّ علي الليبيّون اليوم جميعاً دون استثناء، أن يعودوا إلي تاورغاء قبل أن تعود تاورغاء إليهم إن أرادوا ذلك..!!