هل تحولت ليبيا إلى معبر للمرتزقة وقاعدة للتوسع الأجنبي؟
منذ سنة 2011 وحتى يومنا هذا؛ مثلت ليبيا واحدة من أهم بؤر الصراع الداخلي في المنطقة، وربما في العالم، ولكن؛ ونظرا لتشابك المتصارعين الداخليين مع داعميهم الخارجيين أصحاب المصالح المتشابكة مع أطراف أخرى في دول أخرى؛ تحولت البلاد إلى قطعة شطرنج كبرى في لعبة جيوسياسية خطيرة، يراد من ورائها تغيير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها.
المشهد لم يعد يقف عند حدود تقاسم النفوذ المحلي، بل تجاوزه إلى تحويل البلاد إلى ممر آمن للمرتزقة وقاعدة انطلاق للتوسع العسكري الأجنبي في المنطقة، حيث يبدو أن حفتر مثلا يبادل بقاءه في السلطة بارتهان مقدرات البلاد وإضعاف سيادتها، من خلال تحويلها إلى ممر آمن للمرتزقة الذين يوجههم حلفاؤه الإقليميون والدوليون إلى بؤر النزاع المشتعلة في المنطقة، حيث باتت الأراضي الليبية، وخاصة تلك الخاضعة لسيطرة قوات حفتر في الشرق، جزءا أساسيا من شبكة لوجستية معقدة تمولها الإمارات لدعم قوات الدعم السريع في حربها بالوكالة في السودان.
الأمر تجاوز حدود الاتهامات المتبادلة والمناكفات السياسية وأصبح قضية مثارة على أعلى المستويات عالميا، خاصة بعد تقديم السودان مؤخرا لشكوى رسمية مدعمة بالأدلة، إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها الإمارات بتجنيد وتمويل ما بين 350 إلى 380 مرتزقا كولومبيا، معظمهم جنود وضباط متقاعدون، ونقلهم للقتال إلى جانب قوات الدعم السريع، وتكشف الوثائق أن هؤلاء المرتزقة، الذين يحملون اسما حركيا هو "ذئاب الصحراء"، ينقلون عبر رحلات جوية من الإمارات إلى بونتلاند في الصومال، ثم إلى بنغازي في ليبيا تحت إشراف قوات تابعة لحفتر، قبل عبور الصحراء إلى السودان.
وتكشف التقارير أن هؤلاء المرتزقة، بعضهم بالكاد تجاوز سن المراهقة، يتم تجنيدهم بخداعهم بوعدهم بوظائف أمنية مشروعة في الإمارات برواتب مغرية (حوالي 2600 دولار)، إلا أنهم يجردون من هواتفهم وجوازات سفرهم فور وصولهم إلى أبوظبي، لينتهي بهم المطاف في معسكرات تدريب في دارفور، حيث يجبرون على القتال في واحدة من أكثر الحروب وحشية في العالم.
ويبرز في هذا الصدد استخدام ميناء ومطار بنغازي الذي تسيطر عليه قوات حفتر كحلقة وصل حيوية في هذه الشبكة، وهذا لا يشير فقط إلى تنسيق عال المستوى بين حفتر وحلفائه، بل ويعري حقيقة أن سيادة ليبيا أصبحت سلعة تباع وتشترى، حيث تتحول إلى دولة عبور لأنشطة غير قانونية ودموية تزيد من نار الحرب في جارتها السودان.
وبالتوازي مع الملف السوداني، يمثل الجنوب الليبي مسرحا آخر لاستخدام السيادة الليبية كسلاح في حرب النفوذ والسيطرة، لكن هذه المرة لصالح القوة العظمى التي تربطها بحفتر علاقة متينة؛ روسيا.
حيث تستغل روسيا، عبر مجموعات مثل فاغنر سابقا (المعروفة الآن باسم فيلق أفريقيا)، حالة الفراغ الأمني وتراخي السيطرة في جنوب ليبيا لإقامة قواعد عسكرية غير رسمية، وقد أصبحت هذه المناطق منصة انطلاق للعمليات الروسية والتأثير في دول الساحل الإفريقي، مثل تشاد والنيجر ومالي، حيث تقدم روسيا خدمات أمنية مقابل امتيازات اقتصادية ونفوذ سياسي.
ويبدو أن حفتر يمنح هذا التواجد الروسي الشرعية والحماية مقابل دعم عسكري وسياسي يضمن بقاءه في السلطة، هذه الصفقة غير المعلنة تذكرنا بسياسات القوى العظمى خلال الحرب الباردة، حيث كانت الدول الضعيفة ساحات للصراع بالوكالة، على حساب استقرارها وسيادتها.
وقد يتساءل البعض عن المكسب الذي يعود على حفتر من تحويل بلادنا إلى ممر عسكري لحلفائه؟
والجواب يكمن في حساب سياسي يهدف في جوهره إلى تعزيز الشرعية الإقليمية؛ فمن خلال تسهيله هذه العمليات، يقدم حفتر نفسه كشريك لا غنى عنه للإمارات وروسيا، مما يضمن استمرار الدعم الدبلوماسي والعسكري المقدم لحكمه في الشرق.
ويهدف أيضا إلى تحصين موقعه الداخلي، لأن الدعم الخارجي يمنحه تفوقا عسكريا نوعيا على خصومه في الغرب، ويحميه من أي ضغوط دولية حقيقية لتسوية سياسية قد تكلفه سلطته.
كما أنه يعزز سيطرته على الثروات والتي تعزز بدورها موقعه التفاوضي في أي طاولة لتقاسم السلطة، وربما حتى الاستفراد بها، فتحويل ليبيا إلى مركز لوجستي إقليمي يعزز قبضته على موارد البلاد، خاصة النفط والموانئ، ويجعلها رهينة لمصالح قوى خارجية تفضل التعامل معه كطرف وحيد، دون المخاطرة في التعامل مع أطراف قد تكون مرتهنة بدورها للاعبين دوليين آخرين قد لا تتفق مصالحهم معهم.
وكمواطن ليبي شغلك الشاغل اليوم هو توفير قوت يوم عائلتك، فإن الصراع على السلطة وما يجره من ارتهان للبلاد لأطراف خارجية؛ قد يبدو ترفا فكريا بالنسبة لك، ولكن ومهما كان الطرف الذي تدعمه في الصراع الداخلي، يبقى العبور الآمن للمرتزقة عبر شرق ليبيا، والتمدد الروسي في جنوبها، ليسا أقل من عملية تفريغ متعمدة لسيادة الدولة الليبية، فحفتر، في سعيه لضمان بقائه، لا يبيع أراضي البلاد فحسب، بل يشارك في تأجيج نزاعات إقليمية ويقبض اليوم ثمنا ستدفعه الأجيال القادمة من الليبيين، لقد حول ليبيا من دولة لها وزنها إلى مجرد طريق ترابي في صحراء الصراعات الدولية، وهو دور لن تنتفع منه إلا النخب الحاكمة المتحالفة معه، بينما سيدفع الشعب الليبي، وشعوب المنطقة، الثمن من استقرارهم وأمنهم ومستقبلهم.