الأقتصادي

الغاز النيجيري (ما لميتي حوسة بيتك!!!!)

الغاز النيجيري (ما لميتي حوسة بيتك!!!!)

الغاز النيجيري (ما لميتي حوسة بيتك!!!!) 

 

كان الناس قديما يقولون للمرأة (البايرة) التي لا تقوم بواجبات النظافة والترتيب في بيتها، ثم تشمر عن ذراعيها وتهم بطلخ طبق العصبان اللذيذ والمعقد، الذي يحتاج إلى الكثير والكثير من التنظيف والتقطيع والتجهيز؛ (ما لميتي حوسة بيتك.. لا بال تديري عصبان!)

واليوم نجد أنفسنا بكل أسى؛ ملزمين أن نقول هذه العبارة للمؤسسة الوطنية للنفط، ولوزارة النفط والغاز، وباقي مؤسسات الدولة التي شطح بها الخيال، وظنت أن بإمكانها منافسة دول مستقرة للحصول على أحد أهم مشاريع الطاقة في المنطقة والعالم، مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا وجنوب أوروبا. 

فترى أي معنى يحمله الحديث عن تحويل ليبيا إلى "ممر استراتيجي للطاقة" بينما تكافح مؤسستها الوطنية للنفط من أجل الحصول على ميزانيتها المرصودة منذ سنوات لزيادة إنتاجها من النفط؟ وأي منطق يجعل من بلاد تعاني لتحافظ على إنتاجها الحالي، تتحدث عن استضافة مشاريع ضخمة كمشروع مد أنبوب للغاز من نيجيريا إلى أوروبا بطول 3300 كيلومتر؟ وبأي طريقة سنقنع العالم أننا سنحافظ على تدفق الغاز النيجيري عبر الأنبوب رغم فشلنا في المحافظة على تدفق غازنا ونفطنا عبر أنابيبنا؟ وهل سيحترم (المحتجون) وأصحاب المطالب التي لا تنتهي؛ أنبوب الغاز الضيف ويقفلون أنابيبنا فقط في اعتصاماتهم (السلمية)؟ 

يبدو الحلم الليبي بأن تصبح البلاد جسرا لمشروع استراتيجي ضخم كمشروع الغاز النيجيري إلى أوروبا كمن يبني قصورا من رمال على شاطئ تغمره الأمواج، فالمشروع الذي وجد أصداء ضخمة في أوروبا بعد فترة وجيزة فقط من بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، ليس مجرد خط أنابيب، بل هو نقلة ضخمة في صناعة الطاقة، وورقة رابحة لأوروبا ودول حلف الناتو لتحريرها من التبعية للغاز الروسي، بل إن تنفيذه يعتبر اختبارا لقدرة الدولة الليبية على الخروج من دوامة الانهيار، ولكن، أي دولة تلك التي نتحدث عنها؟

الواقع الليبي اليوم هو واقع التقسيم والصراع على السلطة و(الكعكة)، فالمشهد الأمني يعاني من اختطاف الدولة من قبل ميليشيات مسلحة، وتنازع سلطات داخلية تتعاون مع أطراف خارجية لتحقيق مصالحها، مما يجعل من فكرة وجود سلطة موحدة قادرة على حماية مشروع بهذا الحجم ضربا من الخيال، كيف لخط أنابيب أن يعبر هذه الأراضي المليئة بالجماعات المسلحة والتدخلات الخارجية، وهو الذي يحتاج إلى بيئة آمنة ومستقرة؟ السؤال نفسه يحمل في طياته إجابة قاسية. 

والباب الليبي، للأسف، مفتوح على مصراعيه للتدخل الخارجي، حيث أصبحت ليبيا ساحة لتصفية الحسابات بين دول تتنافس على النفوذ والسيطرة على مواردها، ومشروع كهذا لن يكون حلم ليبيا وحدها، بل سيكون مطمعا لقوى دولية عديدة، وسيصبح أداة جديدة للصراع بدلا أن يكون أداة للبناء. 

وحتى قبل الحديث عن التهديدات الخارجية، فإن العفن الداخلي كفيل بإجهاض أي حلم طموح، والمؤسسة الوطنية للنفط نفسها، التي من المفترض أن تكون الركيزة الأساسية لهذا المشروع، تكافح من أجل الحصول على ميزانيتها، وتعاني من أجل تنفيذ خططها لرفع الإنتاج في نفس الوقت الذي تحارب فيه للمحافظة على الإنتاج الحالي في ظل تهديدات مستمرة بإغلاق الموانئ والحقول.

كيف لمؤسسة عاجزة عن تمويل صيانة منشآتها القائمة، أن تشارك في إدارة وتنفيذ أحد أكبر مشاريع البنية التحتية في المنطقة وربما في العالم؟ 

المعضلة الأمنية في ليبيا هي إشكالية حقيقية في بناء الدولة ذاتها، فالدولة التي تعجز عن فرض سيادتها على كامل أراضيها، وتفشل في بناء مؤسسات أمنية وطنية موحدة، لن تستطيع حماية مقدراتها، ناهيك عن مشروع عملاق يمتد عبر صحاريها.

وفي الخلفية، تراقب أوروبا هذا الحلم الليبي بعيون قلقة، فأمن الطاقة هو هاجسها الأكبر، وكلما اقترب شتاؤها القاسي كلما زادت التساؤلات تأكيدا عن وجود بديل آمن ومستقر للغاز الروسي. 

ومع حاجة أوروبا الماسة للغاز القادم من أفريقيا، تبقى قوافل الهجرة غير النظامية القادمة من نفس القارة هي شغلها الشاغل، وقد تتعاون أوروبا لتحقيق أمنها في مجال الطاقة مع دول أفريقيا، لكنها في الوقت ذاته ستستمر في سياساتها لإبقاء المهاجرين القادمين من نفس الدول خارج حدودها، حتى لو كان الثمن هو دعم جهات تتجاهل معاناة البشر على أراضيها، وهذا التناقض في السياسات الأوروبية يجعل التعامل معها قائما على حسابات مصلحية ضيقة، وليس على رؤية استراتيجية حقيقية لبناء ليبيا المستقرة، فهذا ليس من اهتماماتها إلا بقد ما يحققه من مصالح بالنسبة إليها. 

أضف إلى ذلك أن ليبيا تنافس في هذا المشروع دولة قائمة ومستقرة، تحكم مؤسساتها الأمنية والعسكرية قبضة صارمة على جميع أنحاء البلاد، وتمتلك من المؤهلات ما يجعلها المرشح الأبرز لإقامة هذا المشروع؛ نتحدث هنا عن الجزائر والمغرب، فماذا نمتلك لمنافستها؟

وبالنسبة للمواطن البسيط يبدو الحديث عن مشاريع استراتيجية بهذه الضخامة من الترف الفكري، فالسجال السياسي الليبي الحالي أبعد ما يكون عن هموم المواطن وطموحاته البسيطة، وانشغال النخبة بالصراع على السلطة والتمسك بالكراسي يجعل من هذا المشروع الاستراتيجي مجرد ورقة في حرب المصالح، فبدون حكومة موحدة ومؤسسات وطنية قادرة على تخطي مرحلة "فشل الدولة"، يظل قطاع النفط، ومعه أحلام الليبيين بالرفاهية والمستقبل الأفضل، رهينة للتقلبات السياسية. 

الحقيقة التي لا بد من مواجهتها هي أن هذا المشروع، رغم كونه خطوة استراتيجية هائلة، يحتاج إلى استقرار مالي وإداري وسياسي لا يبدو متوفرا في الأفق المنظور، فقد أصبحت ليبيا ساحة لصراع القوى الدولية والإقليمية، وغدت ثرواتها هدفا للدول الطامحة، وفي خضم هذا الصراع، يدفن حلم المواطن البسيط في عيش كريم.