رائد النخبة الليبية (لاص العاصمة)
نعلم أننا في زمن تتحكم فيه التفاهة بشكل كبير، أو لنقل المحتوى التافه وطريقة التفكير السطحية. لكن هذا الكلام ليس جديدًا، وليس حكرًا على الليبيين؛ جلّ المجتمعات في العالم تعاني بنسب متفاوتة من هذا الداء. لكن في الوقت ذاته، كيف يمكن تحديد الخطاب التافه والعميق أصلًا؟ فما تعتبره فئة من المجتمع خطابًا تافهًا، قد تعتبره فئة أخرى مفيدًا أو ذا قيمة. إذًا، ما هو المعيار؟
يعتبر العديد من المطلعين على حركة التغيير التي تحدث في المجتمعات أن التأثر بالتفاهة أصبح هو السمة الغالبة. بمعنى أن ما يؤثر في الناس عادة هو ما يعبر عنهم أكثر، لأنهم لو رفضوه لما تبنّوه من البداية. ولهذا، يرى هؤلاء أن النخبة، لكي تكون نخبة، يجب عليها أن تُقنع أغلب الناس بخطابها، حتى تمتاز عليهم، ولو شكليًا.
هنا، يبتعد أصحاب هذا التفكير عن تقييم الخطاب نفسه وما يحمله من مضمون مفيد أو غير مفيد للمجتمع، حيث إن الإفادة ترتبط عادةً بتقدم المجتمعات وترقيها من النسخة الدنيا ككائنات حية، إلى النسخة الأرقى كبشر. وكلما كانت الأفكار التي تصدر من بعض المواطنين تساهم في رفعة المنظومة القيمية للمجتمع، كان هؤلاء المواطنون أقرب إلى وصف النخبة
وعليه، يتأثر المجتمع بهؤلاء الأفراد ويتغير سلوكه وطريقة تفكيره. تتضح هذه الحالة جليًا من خلال الفلاسفة والأدباء الذين صنعوا الثورة العلمية والأدبية في أوروبا بعد القرون الوسطى، أو من خلال دور العلماء والمفكرين في ذروة الحضارة الإسلامية إبّان العصر الذهبي للدولة العباسية.
لنعد قليلًا إلى حالنا الآن!
قلنا إن التأثير هو المعيار الأساسي لتحديد نخبة المجتمع، وحتى يكونوا نخبة، يجب أن تتأثر الجموع بهم. بناءً على هذا المعيار، نجد أن هذا الوصف ينطبق بشكل كبير جدًا على الزعيم المعروف بـ”لاص العاصمة”. وهنا أستخدم اسم الشهرة الخاص به لأن قلة قليلة من الناس تعرف اسمه الحقيقي.
لقد اخترنا هذه الشخصية في مقالنا كمثال على معيار التأثير في صناعة النخبة في المجتمعات، لأنه قدّم نظرية جديدة في تقسيم المجتمع الليبي من الناحية الشكلية، حيث قسّمه إلى قهويين و” لامبات”. هذا تقسيم يصعب على غير الليبيين فهمه، لكنه يعبر بشكل أو بآخر عن مجموعة من المعايير التي يتبناها الكثير من الليبيين حول شكل ومضمون الرجل، وما يجب أن يكون عليه.
بشكل واضح، أصبح هذا التصنيف حالة مجتمعية يتبناها الناس. يكفي أن تقوم ببحث بسيط على مواقع التواصل الاجتماعي لتدرك عدد الأشخاص الذين يستخدمون هذا التصنيف في محتواهم. وإن كنت صادقًا مع نفسك، عزيزي القارئ، ستتفق معي أنك تسمع هذا التصنيف يوميًا تقريبًا من شخص واحد على الأقل
شيئًا فشيئًا، أصبح “لاص العاصمة” شخصية مجتمعية بارزة. يناشد السلطة الحاكمة لدعم بعض الحالات الإنسانية، ويُستخدم لتلميع العديد من رموز التشكيلات المسلحة في ليبيا، شرقًا وغربًا. تهتف الجماهير الرياضية بمقولاته الخالدة في ميادين كرة القدم، وتتخذ الأجيال الجديدة من خطابه منهجًا. ومن الواضح أنها ستستمر، بشكل أو بآخر، في السير على خطاه، خاصة أن المجتمع قد رفعه إلى مرتبة النخبة والقيادة المجتمعية تقريبًا.
لا نتحدث عن شخصية لاص العاصمة في إطار التقليل من شأنه على المستوى الإنساني. أبدًا، ليس هذا مقصدنا. لكننا نحلل هذه الحالة لفهم كيف يتغير المجتمع، أو ربما لفهم أننا نعيد اكتشاف المجتمع أكثر مما نغيره. نحاول أن نستوعب محركاته، ونتنبأ كيف سيكون مستقبل هذا المجتمع على مستوى منظومته القيمية، ونوع المحركات التي تؤثر فيه وتغيره للأفضل أو للأسوأ.
لن يقبل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم نخبة في المجتمع الليبي هذا الطرح بسهولة، لأنهم لا يزالون يرون في أمثال لاص العاصمة ظاهرة مؤقتة. كما أن وصف النخبة بالنسبة لهم يظل حكرًا عليهم، يتداولونه بينهم فقط في أروقة المقاهي الثقافية في منزل الحسن الفقيه بطرابلس، أو في ندوات الشعر في بنغازي.
هؤلاء يرددون أفكارهم بينهم، دون الاهتمام بالسعي للوصول إلى المجتمع أو استخدام أدوات العصر للتأثير فيه بشكل إيجابي أو حتى سلبي. في نظرهم، النخبة ليست إلا صومعة مغلقة، يدخلها من تتوفر فيه شروطهم التي تتلخص في تبني خطاب الروح وأهميتها في الجسد، ومناقشة ارتباط الفلسفة بالعقل، أو تحليل الشِعر في القرن الإفريقي ، على الجانب الآخر، تجد هذه النخب التقليدية أن أي خطاب يطرح أولويات المجتمع الليبي ويحاول الإجابة عن تساؤلات الناس البسيطة، لا يرتقي برأيهم إلى مستوى فكرهم الراقي.
حتى نعرف كيف نحدد نخبتنا في ليبيا، من الإنصاف أن نسأل: من هو رائد النخبة الليبية اليوم؟ إذا كانت الإجابة تعتمد على معيار التأثير، فإن “لاص العاصمة” يمثل هذا الرائد الجديد. بغض النظر عن طبيعة خطابه أو تعقيد أفكاره، فإن تأثيره في الناس لا يمكن إنكاره.
يبقى السؤال هنا: هل يعكس لاص العاصمة تغير المجتمع نحو الأفضل، أم أنه يعيد تأكيد ثبات المجتمع في قيمه الحالية، التي ربما نراها نحن متراجعة، لكنها تمثل ما يراه الناس مهمًا؟ والأهم، ما هي المعايير التي ستحدد قادة النخبة مستقبلاً؟