السياسي

قرنية سياسية : حين يُصبح البصر رهينة البصيرة العمياء !

 قرنية سياسية : حين يُصبح البصر رهينة البصيرة العمياء !

 قرنية سياسية : حين يُصبح البصر رهينة البصيرة العمياء !

 

 

كتبنا منذ مدة ليست بالقصيرة؛ مقالا بعنوان (وين يتعاركوا الرياح يجي الكيد عالصاري)، وانتقدنا فيه سياسة (الضراير) التي تطبقها الحكومتان في شرق البلاد وغربها، وبينا فيه كيف أن العديد من القرارات لم تصدر عن هذه الحكومة أو تلك إلا من باب المناكفة السياسية، وإثبات الوجود، وأن الضحية الذي يدفع ثمن مثل هذه القرارات هو دائما المواطن. 

اليوم للأسف يتكرر هذا المشهد العبثي السريالي؛ ليس في بداية العام الدراسي، أو بداية شهر رمضان، أو عزل عميد بلدية ،أو تعيين آخر، اليوم فاجأتنا الضرة الشرقية –حكومة حماد- بتصرف صبياني ساذج لا ينم إلى عن عقلية هذه الحكومة الوهمية وعقلية وزرائها الطفولية! 

في مشهد يختزل عبثية الصراع الليبي، تحول مرضى العيون في طبرق وما جاورها، والمحتاجون لزراعة قرنيات جديدة ليعود لهم الإبصار الذي حرموا منه، تحولوا إلى بيادق في ساحة معركة سياسية معلنة، حيث منع فريق طبي قادم من طرابلس من دخول المدينة بحججواهية تتراوح بين "عدم تأهيل الفريق" و"قرنيات غير مطابقة للمواصفات"، وكأن الحرب الأهلية المستعرة انتقلت من تحرير المدن والسيطرة عليها بالقوة إلى الطعن في الأطباء وما جلبوه معهم من قرنيات! 

المفارقة الساخرة هنا أن القرنيات التي تزرع في عيون المرضى ليست سوى أنسجة بشرية تستخدم عالميا وفق معايير موحدة، وقد زرعت منها فرق الهيئة الوطنية لزراعة القرنية العشرات إن لم يكن المئات في مختلف مدن ليبيا، لكن يبدو أن السياسة الليبية قادرة حتى على اختراع مواصفات خاصة للأنسجة البشرية، كي تضاف إلى قائمة إنجازاتها الوهمية! 

هذه الحادثة ليست سوى حلقة في مسلسل عبثي طويل، ففي وقت سابق، اختلفت سلطات طرابلس وبنغازي حول مصداقية لقاحات "كوفيد-19"، وقبلها تم رد شحنات أدوية، وعزل مسؤولين طبيين لأنهم جاؤوا لطرابلس لاستلامها، فعلى ما يبدو أن السياسي الليبي قد اكتشف أن بإمكانه تحويل حتى أكياس المحاليل الطبية إلى أوراق تفاوض، وربما يطمح يوماإلى الفوز بـ"جائزة نوبل للعبثية". 

لكن وراء هذه الكوميديا السوداء؛ تختفي مأساة إنسانية صامتة، المريض الذي ينتظر سنوات لزراعة قرنية تستعيد له بصره، والذي قد يفقد عينيه ويفقد معهما بهجة حياته؛ لأن نقاشا سياسيا حول "جودة القرنيات" استغرق وقتا أطول من عمر أزمته الصحية، والمواطن العادي الذي يتحول إلى رهينة في لعبة شد الحبل بين حكومات تتناسى أن صراعها ليس على موارد النفط وحده، بل على حياة الناس أيضا.

المواطن البسيط في طبرق الذي استبشر فرحا عند سماعه خبر زيارة فريق الهيئة إلى مدينته، فسجل في قوائم الانتظار وجلس يترقب الموعد، وعائلته التي تجهز ليوم خروجه من المستشفى مبصرا؛ كما تجهز لعرس أحد أبنائها، هي من تدفع الثمن، أما رؤساء الحكومات ووزراؤهم فيسافرون إلى أوروبا في طائرات خاصة (لإزالة شِريبة درهت لواحد منهم كبده). 

والسؤال الذي راودني عند سماعي هذا الخبر المقزز؛ هو هل يحتاج السياسيون الليبيون إلى فحص طبي عاجل لـ "قصر النظر الأخلاقي" الذي يجعلهم عاجزين عن رؤية المعاناة التي يصنعونها؟ أم أنهم ببساطة يمارسون الطب السياسي بوصفات تجريبية، حيث المريض الضحية هو من يدفع ثمن التجربة؟ 

المؤكد أن تحويل الصحة إلى سلاح، والمستشفيات إلى خنادق سياسية، والمرضى إلى بيادق، هو دليل على انحطاط قيمي لا يغتفر، ففي الوقت الذي يحتاج فيه البلد إلى جسور التعاون، تقام المتاريس وتنصب الحواجز، وفي لحظة يفترض أن تكون فيها "القرنية" رمزا للإبصار، تستخدم ذريعة للإعماء.

ختاما، ربما يكون من المفيد تذكير كل الأطراف بأن التاريخ لن يسجل انتصاراتهم الوهمية في منع فريق طبي من دخول مدينة ليبية، بل سيسجل جريمة تحويل الطب إلى ساحة حرب، فالمواطن الليبي لم يعد يحتمل انتظار "قرنية سياسية" تعيد له بصيرة حكامه قبل بصره.