لك الويل لا تزني ولا تتصدقي!
يقول الشاعر:
كمطعمة الأيتام من كَدِّ فرجها**** لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي
هذا البيت يجسد مفارقة مأساوية، فيصور عاهرة تسترزق من كد فرجها، وتطعم الأيتام وتنفق عليهم من هذا الكد، وكأنها بصدقاتها تريد أن تبرر ارتكاب الفاحشة، ومع الأسف يمثل هذا البيت مرآة تعكس الواقع الليبي اليوم، مسؤول غني، أو آمر مجموعة مسلحة متنفذ، كلاهما استطال في أموال الدولة، وراكم الثروات من سرقة قوت الشعب، يظهر بمظهر الشهم الهمام الذي يساعد الفقراء ويعطف على المساكين، يسرق أموالهم ثم يتصدق عليهم منها (من لحيته افتله حبل!).
عانت ليبيا منذ انقلاب القذافي عام 1969 من أبشع سنوات الظلم والاستبداد والإفقار المتعمد للشعب، وبينما كانت العائلة الحاكمة وحاشيتها تعيش في رفاهية مطلقة، كان الشعب يرزح في ظلمات الفقر والجهل والمرض، وبعد الثورة على القذافي ونظامه استبشر الناس خيرا أن تعود ثروات البلاد إليهم وأن يتمتعوا بخيرات أرضهم، ولكن (قادة الثورة الجديدة والقافزون عليها من مركب النظام السابق) كان لهم رأي آخر، فأدخلوا البلاد في دوامة من الحروب العبثية والتحالفات السياسية والعسكرية التي تسببت في تفكك الدولة، وتحول المواطن الليبي –الذي لم يطمح إلى أكثر من العيش الكريم- إلى متسول أمام أبواب من سرقوا أمواله، ففي الشرق، يطرق الفقراء أبواب أبناء خليفة حفتر وأصهاره الذين تحكموا في المال العام تحت شعارات "الحرب على الإرهاب" و"ثورة الكرامة" ومؤخرا صناديق الإعمار، وفي الغرب، يتوجه البؤساء إلى أمراء المجموعات المسلحة المتحالفة مع الحكومات السابقة والحالية واللاحقة، والتي حولت المناصب إلى مناجم ذهب شخصية.
ما دعا لكتابة هذه الكلمات التي ستجلب لنا السب والشتم من الفقراء الذين نريد أن ندافع عن حقوقهم؛ هو تسجيل مصور شاهدته منذ أيام لأحد مشاهير الغفلة ورموز الحالة الليبية التي كونها الفراغ العقلي والفكري والأخلاقي، يثني هذا المشهور على (الحاج فلان) ويطلب منه الفزعة لعائلات ليبية لا تملك ما تطعم به أبناءها في شهر رمضان، ليتدخل الحاج صاحب المكارم والمكرمات والأيادي البيضاء ليفرج كرب العائلات الفقيرة، وليتحول مشهور الغفلة إلى روبن هود الغلابة، حيث أن روبن هود الأصلي يسرق من اللصوص الأغنياء ويعطي للفقراء، بينما عندنا أصبح يستجدي اللصوص الأغنياء ليتصدقوا على ضحاياهم وينالوا الأجر والثواب، وينال هو الثناء والذكر الحسن (وسلمك فزاع).
لا يحتاج المرء إلى أكثر من جولة في أحياء طرابلس الفاخرة أو بنغازي "المُحررة" ليرى قصورا فخمة تشيد على أنقاض بيوت الفقراء، أو سيارات فارهة تمول من أموال ربما كانت مخصصة لبناء المدارس أو الملاعب أو المستشفيات.
التقارير المحلية والدولية تكشف عن مليارات مختفية في حسابات خارجية، وأثرياء يولدون كل يوم من رحم الفقر، وتتحدث نفس التقارير أن 30% من الليبيين على الأقل تحت خط الفقر، السؤال الأهم: كيف أصبح أمراء الحرب – شرقا وغربا – من كبار المليارديرات في بلد يعاني نصف شبابه من البطالة المقنعة، وتنعدم فيه المرافق والخدمات، وتقل فيه جودة الحياة عن بعض أفقر دول العالم؟ الجواب ببساطة: الفساد الممنهج والمقنن الذي حول المال العام إلى غنيمة، والشعب إلى قطيع يذبح مرتين: مرة بالسرقة، ومرة بالإذلال.
المفارقة الأكثر قسوة هي تحويل الفساد إلى نظام مقبول اجتماعيا، وتحويل "الحاج" الفاسد إلى رمز شعبي، وأسطورة حية يجب أن نحافظ عليها، فبدلا من أن تكون الدولة هي الضامن لحقوق المواطن، أصبحت العصابات المسلحة – بغطاء سياسي – هي الجهة الوحيدة القادرة على توزيع الصدقات، وإنقاذ الفقراء من سطوة غلاء الأسعار الفاحش.
الفقير الذي هدم بيته بسبب الفيضانات مثلا يهرع إلى ابن المسؤول طالبا المساعدة، والأم التي يموت أطفالها بسبب نقص الأدوية تتوسل زوجة القائد العسكري عبر فيديو على فيسبوك! هنا لا يقتصر الجرم على السرقة، بل يتعداه إلى تحطيم كرامة الإنسان، وإعادة إنتاج نظام العبودية الحديثة؛ "أنت تعيش فقط لأننا نسمح لك بالعيش".
الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب أكثر من منشورات على فيسبوك أو خطابات حماسية أو مقالات رنانة، التجربة الليبية أثبتت أن "الثورة على الفساد" لا تكفي إذا لم تهدم البنية التحتية للفساد.
والبنية التحتية للفساد لم تهدم بل تمت صيانتها وتطويرها، فالعقيد تحول إلى مشير، وأبناء العقيد رحلوا وتركوا المجال لأبناء المشير، والحجاج يزيدون ولا ينقصون، والمتملقون والمتسلقون والمتسولون أصبحوا قدوة ومثلى أعلى لكل سامري يطمح أن يقبض قليلا من أثرهم فيلقيه على عجلهم الأجوف ليناله بعض من خواره.
البيت الذي بدأنا به المقال ليس مجرد استعارة لصورة بلاغية، بل هو تذكير بواقع اللص الوقح الذي يمارس فاحشة السرقة، ثم يغسلها بفضيلة إطعام الأيتام، اللص الوقح الذي يسرق أموالك ويعطيك منها الفتات ثم يطلب منك أن تشكره على ذلك، إن كرامة المواطن الليبي لا تستعاد بالاستجداء، بل بالعدالة، والشعب الذي يجبر على أكل الفتات من يد من سرقه، ليس شعبا فقيرا فقط، بل هو شعب بلا كرامة.