ماهو شكل الزعيم الذي تحب أن تصدقه؟
السياسة، في جوهرها، ليست سوى انعكاس لما يريده الناس أو على الأقل لما يعتقدون أنهم يريدونه. لكن المشكلة الأعمق أن الجماهير كثيرًا ما تطلب شيئًا دون استعداد لدفع ثمنه. يريدون التغيير، لكنهم لا يريدون تحمل كلفته، ويفضلون انتظار الحظ أو المعجزة السياسية بدلًا من الاعتراف بأن الطريق إلى أي تغيير حقيقي مليء بالتضحيات والعمل الجاد ، في هذا السياق، ينجح السياسيون الأكثر قدرة على بيع الأوهام، لأنهم يخاطبون الناس بأحلامهم دون أن يشيروا إلى ثمن تحقيقها. هذه الديناميكية ليست مجرد نظرية، بل هي واقع ملموس في الحالة الليبية، حيث يتجلى هذا النمط في شخصيات مثل عبد الحميد الدبيبة، عقيلة صالح، وخليفة حفتر.
حيث إن عبد الحميد الدبيبة يمثل حالة نموذجية للسياسي الذي يعد بالكثير دون تقديم رؤية واضحة لكيفية التنفيذ. قدّم نفسه كقائد قادر على تحقيق نهضة اقتصادية ووعود كبيرة مثل رفع الرواتب، دعم الشباب، وإنعاش الاقتصاد، لكنه لم يوضح يومًا كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل اقتصاد ريعي هش وانقسامات سياسية حادة. كانت استراتيجيته تعتمد على تكرار خطاب (عودة الحياة) دون مواجهة الحقيقة الصعبة: لا تنمية بدون استقرار، ولا استقرار بدون قرارات صعبة قد لا تحظى بشعبية. ومع ذلك، استطاع أن يحشد دعمًا واسعًا، لأن الناس أحبوا سماع ما يريدون، حتى لو لم يكن قابلًا للتحقيق.
عقيلة صالح، من جهته، لعب على وتر مختلف لكنه يلتقي مع الدبيبة في نفس الجوهر: تقديم وعود سياسية دون حلول واقعية. لطالما صوّر نفسه كحارس للمؤسسات، مدافعًا عن الدولة ضد الفوضى، لكنه في الواقع كان طرفًا أساسيًا في تعطيل العديد من التسويات السياسية، خاصة عندما لا تخدم مصالحه. تبنّى خطاب الحفاظ على الشرعية، لكنه لم يكن مترددًا في استغلال الجمود السياسي للحفاظ على نفوذه. وهكذا، استطاع أن يكسب تأييد فئات معينة، ليس لأنه قدّم حلاً، بل لأنه عزف على مخاوف الجماهير من الفوضى، مقدمًا نفسه كبديل ضروري.
أما خليفة حفتر، فقد كان أكثر وضوحًا في خطابه، لكنه لم يكن أقل وعودًا. بنى صورته كقائد عسكري قادر على فرض النظام بالقوة، مستغلًا رغبة الكثير من الليبيين في إنهاء الفوضى بأي وسيلة. وعد بالقضاء على الميليشيات وإعادة الدولة، لكنه لم يوضح كيف يمكن تحقيق ذلك وسط انقسامات حادة وصراعات إقليمية معقدة. ورغم أنه تمكّن من فرض السيطرة في بعض المناطق، إلا أن مشروعه لم يحقق الاستقرار الشامل، لأنه اعتمد على القوة وحدها دون بناء مؤسسات سياسية مستدامة. ورغم ذلك، ظل محتفظًا بقاعدة شعبية قوية، لأن الكثيرين فضّلوا تصديق أنه قد يكون “الرجل القوي” القادر على الحل، حتى لو لم تكن هناك أدلة على نجاح مشروعه على المدى البعيد.
في كل هذه الحالات، يتكرر نفس النمط: الجماهير تريد حلًا سهلًا، والسياسيون يقدمون وعودًا دون أن يشيروا إلى الثمن الحقيقي. وهذه ليست مشكلة ليبيا وحدها، لكنها في ليبيا أكثر وضوحًا بسبب تعقيد الأزمة وتعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين فيها. يريد الليبيون إنهاء الفوضى، لكن دون أن يتفقوا على الكيفية. يريدون الاستقرار، لكنهم غير مستعدين للتنازل عن مكاسبهم الفئوية أو القبلية. يريدون اقتصادًا مزدهرًا، لكن دون تقبّل الإصلاحات الصعبة التي يتطلبها ذلك
هذا الوضع يجعل من السهل على السياسيين التلاعب بالمشهد، لأنهم يعلمون أن الوعود الكبيرة تجذب الانتباه أكثر من الحقائق الصعبة. ولهذا، فإن السياسيين الأكثر نجاحًا هم في الغالب الأكثر قدرة على المراوغة، لأنهم يبيعون الأمل دون حساب الكلفة.
إذا لم يدرك الليبيون أن التغيير الحقيقي لا يأتي عبر انتظار معجزة، بل عبر الوعي السياسي والعمل، فسيظل المشهد السياسي يدور في حلقة مفرغة. ما لم يتغيّر إدراك الناس لما يريدون حقًا، وما لم يكونوا مستعدين لدفع ثمن ذلك، فإن السياسة ستظل مجرد مسرح مليء بالشخصيات التي تعرف تمامًا ما يريد الجمهور سماعه، لكنها لا تنوي أبدًا تحقيقه