إبرة اقتصاد في جسد يحتضر!
أعاد رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، منذ أيام خلال مؤتمر اقتصادي عقد في طرابلس؛ فتح ملف رفع الدعم عن المحروقات، وطرح الدبيبة خلال كلمة له في افتتاح المؤتمر؛ ثلاثة بدائل لدعم الوقود، منح دعم نقدي للمواطن، أو زيادة الرواتب، أو تخصيص حصة لكل مواطن من الوقود المدعم تُصرف ببطاقات.
وتابع الدبيبة: (نحن لا نخاف. هذه فلوس ليبيين، ولا بد أن نوظفها بالطريقة الحقيقية والجدية لهذا الشعب. هناك تهريب للبنزين والنفط، والكهرباء تصرف بلا حساب. الحلول واضحة جدا: إما نمنح الدعم نقدًا للمواطن أو ضخّه في الرواتب أو منح حصة لكل مواطن من الوقود بالسعر المدعوم عبر بطاقة، والباقي يباع بسعره الحقيقي كأي دولة أخرى).
ورغم اعتقادنا أن النقاش في السياسات الاقتصادية للدولة هو ترف لا نملكه، أولا بسبب العشوائية في إدارة هذه الملفات وغياب الخطوط والخطط الواضحة حتى تناقش، وثانيا بسبب سلبية الشعب وتعاطيه مع هذه القرارات المصيرية بعاطفية وشعبوية، يحرك بوصلتها الاستقطاب، فالقرار في ليبيا صائب وإن أفقرني إن كان متخذه في فريقي، والقرار خاطئ وإن أغناني إن كان متخذه خصمي.
ورغم ذلك يطفو ملف رفع الدعم عن المحروقات دائما كلما فتح كضيف ثقيل يحاول أن يفسد جلسة لم تكن أصلا مبهجة ، الحكومة تطرح الفكرة بلسان واثق يقول: "الإصلاح ضرورة"، لكن المواطن الذي اعتاد أن يرى الضرورات تتحول إلى كوابيس هو من يعاني تبعاتها؛ يلتفت حوله بقلق ويسأل: أي إصلاح هذا الذي يبدأ بثقب جيوبنا قبل أن يملأها؟
الحديث عن وقف دعم المحروقات ليس جديدا، لكنه اليوم يكتسب زخما تحت ذريعة "إنقاذ الاقتصاد الوطني"، تلك العبارة السحرية التي تستخدم غالبا كغطاء لعمليات جراحية تنفذ دون تخدير، فالدولة التي أنهكها الفساد والصراعات لسنوات تريد الآن أن تعالج الهدر بقطع الإنفاق عن الوقود، وكأنما اكتشفت فجأة أن خزائنها ليست بلا قاع، بينما ظلت لعقود تتعامل مع ثروات البلاد وكأنها بئر لا تنضب إلا حين يتعلق الأمر بتمويل الخدمات الأساسية.
السبب الأول الذي تعلقه الحكومة على جدار الإصلاح هو "مكافحة تهريب الوقود"، تلك الآفة التي حولت ليبيا إلى محطة خيرية مجانية للدول المجاورة، حيث تباع كل قطرة بنزين مدعومة بأقل من سعر المياه المعدنية في السوق السوداء، بينما تتحمل الخزانة العامة فاتورة الخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا، وبهذه الذريعة يعتبر رفع الدعم ضرورة لا بد منها؛ ولكن ... لماذا لم تكن مكافحة التهريب أولوية عندما كان الفساد يلتهم المليارات تحت سمع الدولة وبصرها، لماذا لم يكن أولوية عندما كانت خزائن الدولة ملآ بالأموال ولم تنهكها بعد سرقاتهم، لماذا لم تصبح مكافحة التهريب أولوية مطلقة إلا عندما هددت استمرار الحكومتين في حلب بقرتنا التي أصبحت بالكاد تقوى على الاستمرار في الحياة فضلا عن العطاء؟
الحجج المبررة لرفد الدعم كثيرة ولا تتوقف عند التهريب وحده، فهناك فكرة العدالة الاجتماعية، فالوقاع يقول إن الأغنياء الذين لا يحتاجون الدعم؛ يستفيدون من الدعم أكثر من الفقراء، خصوصا حين يملأ أصحاب السيارات الفارهة خزانات سياراتهم بالوقود المدعوم بينما يعاني المواطن البسيط لتأمين أجرة المواصلات، لكن ما يثير السخرية هو أن الدولة التي عجزت عن بناء نظام ضريبي عادل أو توفير خدمات أساسية كالكهرباء والماء، تريد الآن أن تثبت أنها قادرة على تحقيق العدالة من خلال سحب البساط من تحت الجميع، على أمل أن يلتقط الفقراء بعض الفتات لاحقا عبر تحويلات مالية "ذكية في بلد الغباء" لم يسبق لها أن نجحت في أي مكان دون بنية تحتية رقمية متينة.
لا ينكر عاقل أن توجيه الأموال نحو الصحة والتعليم والبنية التحتية فكرة جميلة، خاصة في بلد تتحول فيه المدارس إلى خرائب والمستشفيات إلى غرف انتظار للموت، لكن المواطن الذي سمع عشرات الوعود عن تحسين الخدمات منذ عهد القذافي وليبيا الغد إلى اليوم ووعود الإعمار وعودة الحياة، يعرف جيدا أن كلمة (تطوير) في القاموس الحكومي غالبا ما تعني إضافة لافتة جديدة على مبنى مهترئ، أو وعدا بتوزيع أجهزة طبية على مستوصفات القرى النائية، ستختفي في مستودعات الفاسدين.
أما عن الشروط التي يجب أن تسبق رفع الدعم، كتحسين النقل العام ومراقبة الأسعار، فهي تذكرنا بذلك الطالب الذي يسأل معلمه كيف سيحضر لامتحان الغد، بينما هو لم يفتح كتابا طوال العام، فليبيا التي لا تملك شبكة نقل عام متصلة بين مدنها، ولا تمتلك شبكات نقل حتى داخل المدن نفسها، يفترض أن تصبح بين ليلة وضحاها نموذجا للشفافية والتنظيم؟
الحقيقة التي لا تحب الحكومات الاعتراف بها هي أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بضرب الفقراء بحجة إنقاذهم، بل بضرب الفاسدين الذين حولوا الدولة إلى غنيمة، فلو أن كل مليار يهدر في التهريب والفساد تحول إلى بناء مدرسة أو مستشفى، لما احتاج الليبيون إلى نقاشات عن رفع الدعم، لكن يبدو أن الجراحة الاقتصادية سهلة حين تكون موجهة إلى جيوب العامة، بينما تصعب حين يتعلق الأمر بمصالح كبار اللاعبين في السوق.
في النهاية، قد يكون رفع الدعم خطوة ضرورية ولا بد منها، لكنها تشبه إطفاء حريق بالزيت، قد ينجح الأمر، ولكن إن لم تكن حريصا، قد ينتهي بك الأمر إلى كارثة.
الإصلاح الذي لا يرافقه محاسبة الفاسدين، ولا يسبقه بناء شبكات أمان اجتماعي تحمي الفئات الأضعف، ولا يشرك المواطن في ثماره، ليس سوى وصفة لمشروع فساد جديد، (ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب).