اجتماع برلين واحتكاكات الدبيبة؟
توجهت أنظار الليبيين إلى اجتماع برلين، المنعقد في 19 يونيو 2025، والذي جمع معظم الدول المتدخلة في الشأن الليبي، إلى جانب بعض الدول الأوروبية وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، بهدف مناقشة الأزمة الليبية ومحاولة إيجاد مسار دولي لكسر حالة الانسداد السياسي التي تمر بها البلاد، في ظل توترات أمنية كبيرة شهدتها العاصمة طرابلس خلال الشهر الماضي ونصف الشهر الجاري.
كان متوقعًا أن يُفضي الاجتماع إلى ولادة مسار دولي يضع آلية لاختيار حكومة تنفيذية جديدة توحّد السلطة التنفيذية المنقسمة بين الشرق والغرب، وتُوجد مخرجًا واضحًا وسلميًا لخروج حكومة “عودة الحياة” من طرابلس، خصوصًا في ظل الرفض الشعبي المتصاعد لها خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى التحديات الأمنية التي عاشتها العاصمة، بفعل ما سمّته حكومة الدبيبة “حملة عسكرية” تستهدف القضاء على التشكيلات المسلحة، وهو ما ينذر بانفجار الوضع الأمني في طرابلس في أي لحظة.
إلا أن البيان الختامي للاجتماع لم يحمل جديدًا، بحسب رأي كثير من المتابعين، إذ اكتفى بتكرار العبارات الإنشائية المعروفة، والتي اعتاد الليبيون سماعها مثل: دعم المسار السياسي، و توحيد مؤسسات الدولة”، ودعم خطط بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ودعوة الأطراف العسكرية إلى ضبط النفس والالتزام بوقف إطلاق النار، عبارات جميلة في ظاهرها، فارغة من أي أثر فعلي ، كل ذلك يحدث في وقتٍ تشهد فيه طرابلس حراكًا شعبيًا أسبوعيًا ينادي برحيل حكومة “عودة الحياة”، وكل الأجسام التشريعية منتهية الولاية، والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية تُنهي حالة الانقسام وتجمع شمل البلاد.
من جهة أخرى، وفيما يشبه العالم الموازي كما يراه البعض، خرج رئيس حكومة عودة الحياة، عبد الحميد الدبيبة، بتصريحات مفادها أن (الاحتكاك) مع التشكيلات المسلحة المتبقية أمرٌ لا مفر منه ، ففي اجتماع دوري لمجلس وزرائه، قال الدبيبة إن (معركة الدولة مع التشكيلات المسلحة مستمرة )، وإن طرابلس (لم تعد تحتمل الاثنين معًا: إما الدولة أو التشكيلات)، في إشارة واضحة إلى أن الصدام المسلح قادم لا محالة ، ويرى بعض المتابعين أن هذا التصريح موجّه تحديدًا إلى قوة الردع الخاصة، التي باتت تُعد، في نظر الدبيبة، العقبة الأهم أمام استمرار حكومته في طرابلس، وبالتالي لا مفرّ من إنهائها.
ويبدو أن السيد الدبيبة قد صنّف التشكيلات المسلحة إلى قسمين: قسم (مع الدولة، وآخر ضدها)، أو بتعبير أدق، قسم مع استمرار حكومته التي باتت، وفق رؤيته، تُجسّد الدولة ذاتها. من هنا، فإن حديثه يُشير بوضوح إلى نيّة استئناف المواجهات مع قوة الردع قريبًا، في إطار سعي حكومته للسيطرة التامة على المشهد الأمني في طرابلس وغرب البلاد، تمهيدًا لاتفاق محتمل مع عائلة حفتر في الشرق، بشأن تشكيل حكومة موحدة.
وتعزز هذا السيناريو تصريحات الدبيبة الأخيرة، التي أشار فيها إلى اعتزامه إجراء “تعديلات هيكلية” على حكومته، بعيدًا عن منطق المحاصصة الذي “فُرض عليه”، حسب تعبيره، من قِبل بعض التشكيلات المسلحة التي انتهت للأبد ، وأكد أنه سيراعي في هذه التعديلات “البعد الاجتماعي” للمجتمع الليبي. ويرى بعض المطلعين أن هذه الخطوة تهدف إلى تقديم “نسخة جديدة” من حكومة “عودة الحياة”، على أمل أن تنال قبول المجتمع الدولي وتُمنح فرصة للإشراف على أي استحقاق انتخابي محتمل.
لكن الواقع يقول إن الدخول في انتخابات خلال الفترة القريبة يكاد يكون مستحيلًا، في ظل غياب الأمن والاستقرار المجتمعي والمؤسسي، فضلًا عن غياب توافق دولي حقيقي يسعى لترسيخ هذا المسار. ورغم تواصل الحراك الشعبي المُطالب برحيل حكومة الدبيبة، فإن غياب رؤية دولية واضحة لاختيار حكومة موحدة جديدة، يعني ضمنيًا استمرار حكومة عودة الحياة في طرابلس، وحكومة حماد في شرق البلاد، ويعني أيضًا عودة الاشتباكات المسلحة، أو (الاحتكاكات) كما وصفها الدبيبة، إلى شوارع طرابلس، التي لا تزال تعج بالأسئلة!
لقد قلنا سابقًا في مقال نُشر منذ أشهرإن (طرابلس لن تخرج من أزمتها إلا بحرب)، ويبدو أننا نعود الآن إلى هذه الحقيقة المؤلمة. فالتاريخ القريب يخبرنا أن جميع الحكومات التي تعاقبت على ليبيا خلال العقد الأخير، باستثناء حكومة الكيب، وصلت بالرصاص وغادرت به، ولن تكون حكومة الدبيبة استثناءً.
لذا، تحصّن عزيزي المواطن بكثير من الصبر، وكن حذرًا، فالمعارك القادمة قريبة، والمؤسف أنها لا تُفرّق بين الجاني والضحية.