السياسي

الحقوق مش بيتزا

الحقوق مش بيتزا

الحقوق مش بيتزا

 

أعزائي الليبيون الكرام .. إن الحقوق التي نتمتع بها في بلادنا والتي تمنحها لنا القوانين والتشريعات النافذة؛ ليست فطيرة بيتزا مقسمة إلى شرائح على شكل مثلثات، إذا شاركك غيرك فيها تنقص حصتك بمقدار ما أخذ الشريك الجديد!

عندما يتمتع غيرك بالحقوق التي تكفلها القوانين والتشريعات النافذة في الدولة؛ فإن حقوقك لن تنقص ولن يطرأ عليها أي تغيير، فلماذا تثور غضبا كلما أُقر تشريع أو قانون أو قرار يمنح فئة من الناس حقوقا كانوا مرحومين منها؟ أو حتى عندما يفتح باب للنقاش حول منح حقوق لفئات من الناس مع أن تمتع هؤلاء بهذه الحقوق لن يلحق بك أي ضرر؟

ما جعلني أستحضر هذا الموضوع هو الجدل الذي أثير حول قرار أصدرته حكومة الوحدة الوطنية في شهر أكتوبر ونص على تقرير أحكام خاصة بأبناء الليبيات المتزوجات من أجانب، ومنها أن "يتمتع أولادهن بكافة الحقوق التي يتمتع بها المواطن الليبي، من مجانية العلاج والتعليم في الداخل، والقبول في المدارس الليبية في الخارج".

ويعفي القرار أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب "من شرط الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي الليبية، وحصول أزواجهن على تأشيرة الدخول عند الوصول، والتزام السفارات والقنصليات الليبية في الخارج بتقديم الخدمة لهم أسوة بالمواطنين الليبيين".

أزعج هذه القرار فئات كبيرة من أبناء الشعب الليبي، وظهر انزعاجهم بشكل واضح على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي ضجت بمناشير وتعليقات منتقدة للقرار ورافضة له وداعية إلى سحبه لحجج أوهى من بيت العنكبوت، مثل الحفاظ على الأمن القومي، والحفاظ على الأصل الليبي، وكذلك استحضار نصوص دينية لا يمكن عقلا إنزالها في هذا المقام مثل آية الميراث وغيرها.

وقبل أن نناقش حجج الرافضين للقرار؛ لنعرج على ما نراه أسبابا لهذا "التعصب" الذي يظهره كثير من الليبيين في مسائل مثل الجنسية؛ ومن أبرز أسباب هذا التعصب أن الليبيين يتعاملون في القرن الحادي والعشرين مع مسألة الجنسية في الدولة الحديثة بمعايير القبيلة في العصور الغابرة، ويعتقدون أن الجنسية الليبية هي امتياز خاص بهم دون غيرهم ويكفله لهم صفاء عرقهم ونقاء أصلهم وعدم تلوث جيناتهم بموروثات أمم أخرى لعلهم يعتقدون أنها أقل منهم، وهذا القول مع ما فيه من البطلان قانونا؛ فإنه يخالف الواقع من حيث الممارسة والتاريخ.

فقانونا؛ ما يمنحك حق الجنسية في الدولة الحديثة هو انطباق القانون الساري في الدولة عليك، ولن ينفعك عرقك وأصلك وفصلك إذا أقرت الدولة (ظلما) مشروعا جديدا للجنسية يستثنيك، والنماذج على ذلك كثيرة منها ما حدث مؤخرا في الهند بعد اعتماد قانون جديد أصبح بموجبه ملايين من المسلمين الهنود بلا جنسية، ببساطة لأن القانون الجديد لا يشملهم، مع أنهم من السلالة الهندية بلا شك، وعاش أجدادهم في أرضهم منذ مئات وربما آلاف السنين.

ومثال آخر حدث لأبناء قبيلة الغفران في قطر سنة 2004 وبعدها، حين سحبت الدولة جنسية عدد كبير منهم بعدما أقرت قانونا جديدا –قال أبناء القبيلة إنه صمم عمدا لعقابهم- أصبحوا بموجبه مهاجرين غير شرعيين بعدما كانوا قضوا ليلتهم السابقة لصدوره مواطنين في بلادهم.

فالجنسية التي يرى البعض أنه امتياز عرقي، ويتعاملون مع من لا يحملها بطريقة شوفينية، ما هي في الحقيقة إلا رابطة بين الفرد والدولة ينظمها قانون ويترتب عليها حقوق والتزامات، وتستطيع الدولة أن تضيق في القانون وتوسع كما شاءت، وستسري الأحكام التي أقرتها قبل المتعصبون للجنسية بها أو رفضوا، وموضوع سحب الجنسية من المعارضين في الدول الاستبدادية أشهر من أن يذكر وليبيا في هذا الأمر ليست استثناء.

فهذا بطلان أساس التعامل مع الجنسية بطريقة عشائرية قانونا، أما بطلانها من حيث الممارسة فيتجلى في تساهل الرافضين لمنح حقوق لأبناء الليبيات المتزوجات من غير ليبيين؛ في موضوع الليبيين المتزوجين من غير ليبيات، فلا يرون حرجا في منح الجنسية الليبية وكل ما يترتب عليها من حقوق وامتيازات لشاب ولد في كندا مثلا لأب ليبي وأم كندية شقراء، عاش كل حياته في بلاده التي يتمتع بجنسيتها ولا يعرف غيرها –أقصد كندا- ويتحدث بلغتها ويتعامل بثقافتها ولا يعرف عن ليبيا إلى ما قد يكون حدثه والده عنها، لم يزرها ولم يرغب في ذلك، بل وحتى لا يجيد لغة أهلها، وهو مع ذلك يحمل جنسيتها ولا يراه أهلها غريبا عنهم مع أنه لا يشاركهم لا اللغة ولا الثقافة ولا حتى الملامح، فلماذا نتعامل مع الأمور ذات الطبيعة المتشابهة بطريقة انتقائية؟

أما تاريخيا؛ فقد درجت القبائل قديما على منح ما يعرف بالولاء لمن عاش في مضارب القبيلة فترة طويلة وأظهر ما يؤهله للانتماء إليها، فتسبغ عليها القبيلة اسمها ويحمله لقبا له مع أنه لا يرتبط بها برابطة الدم، وهذا لعمري تناقض غريب ممن يعيش معنا الآن بأفكار القبيلة ويرفض أن يطبق مبادئها عندما تتعارض مع أهوائه، ولهؤلاء نقول نحن نرفض القبلية ومبادئ القبيلة ونريد أن نعيش في عصرنا بتقاليد عصرنا وأن تحكمنا مبادئ وقيم وقوانين الدولة الحديثة، ولكن إن شئتم أن تتعاملوا مع الأمور بمبادئ القبيلة فلا تكونوا انتقائيين ولنعطي لهؤلاء الأطفال الذي ولدوا وعاشوا في مضارب قبيلتنا – ليبيا- حق الولاء القبلي وليكونوا ليبيين بالولاء.

نعود الآن لمناقشة حجج الرافضين لتمتع أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب بحقوق مساوية لليبيين، ومن أبرز هذه الحجج وأكثرها استعمالا الأمن القومي؛ وليت شعري ما هو الأمن القومي في دولة مستباحة كليبيا، ولكن دعنا نسلم جدلا أن هؤلاء قد يعرضوا أمن البلاد للخطر إذا منحوا حق التعليم والعلاج والدخول إلى البلاد بلا تأشيرة، ولنقف أمام منحهم هذه الحقوق بل ولنطردهم جميعا إلى دول آبائهم، ولننظر بعدها إلى أمننا القومي ومن يهدده؛ أعضاء المجالس المتمسكة بالسلطة منذ سنوات طويلة والذين ينهبون خيرات البلد ويرفضون الرحيل عن كراسيهم مع ما سببوه من مآسي ليسوا أبناء زوجات ليبيات وأزواج أجانب، قادة المليشيات المسلحة والجيوش المجيشة التي لا تعرف إلا الحرب والدمار والقتل، ولم تؤد بالليبيين إلا إلى التشرد والنزوح والفقر ليسوا أبناء ليبيات متزوجات من غير ليبيين، أعضاء الحكومات المتعاقبة لصوص المال العام الذين أثروا على حساب فقرنا ومعاناتنا وأزماتنا ليسوا أبناء أجانب متزوجين من ليبيات، كل من ذكرنا وغيرهم ممن أهانونا وأذلونا وسرقونا وأفقرونا بل وحتى نحن الذين رضينا لهم بذلك لسنا أبناء أجانب، آباؤنا ليبيون وأمهاتنا ليبيات، تمتعنا بالجنسية التي هي حقنا ولم نعطها حقها.

كذلك احتج بعض الرافضين للقرار المذكور بحجة المحافظة على الأصل الليبي، وهذه الحجة هي أقرب لأن تكون نكتة أو طرفة من تكون حجة في نقاش، فما هو هذا الأصل الليبي أصلا حتى نحافظ عليه؟

ليبيا بسبب موقعها الجغرافي المتوسط للعالم القديم والمتوسط للبحر المتوسط أحد أهم المسطحات المائية قديما وحديثا؛ كانت دائما مطمعا للغزاة والمحتلين والمستعمرين، وقد سكنها منذ فجر التاريخ سلالات وعرقيات وأمم لا تعد ولا تحصى، وقد ترك كل هؤلاء من موروثاتهم الجينية في سكانها ما يدل على مرورهم منها أو مكوثهم بها، ففي ليبيا اليوم عرب وأمازيغ وأفارقة وأسيويين وأوروبيين، مع ما يحمله كل هؤلاء من تنوع داخلي بينهم، وكل هذا موجود في ليبيا، فعن أي أصل نتحدث عندما نقول إنه يجب المحافظة على الأصل الليبي؟ هل هو أصل ناشئ عن تلاقح كل هذه الأصول مجتمعة؟ أم أن كل من أن ينتمي إلى أحد هذه الأصول يغني على ليلاه؟

أضف إلى ذلك حقيقة أن الغالبية العظمى من الليبيات المتزوجات من غير ليبيين هن متزوجات من مواطني دول شمال أفريقيا التي يشاركنا أهلها في الأصول العرقية التي ينتمي إليها الليبيون، فكيف نحافظ على الأصل بمنعه من أن يختلط بنفسه؟

إن الدافع الحقيقي لرفض الرافضين لمثل هذه القرارات هو الخوف من أي شيء جديد وغير مألوف، والجهل بأسبابه وتداعياته، مع أن القرار حقيقة لا ينصف أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب بل إنه يلتف على مطلبهم الحقيقي وهو منحهم جنسية بلادهم –ليبيا-، ويدعي أنه منحهم حقوقا مجرد فكرة أنهم لم يتمتعوا بها سابقا هي مثيرة للاشمئزاز، ألم يتمتعوا سابقا بمجانية العلاج والتعليم؟ هل كانوا مطالبين بتأشيرة دخول لعودتهم إلى ليبيا؟ ألم يقبلوا في المدارس الليبية في الخارج؟

أخي المواطن الرافض لتمتع غيرك بحقوق إنسانية أصلية؛ إن تمتع غيرك بحقوق مساوية لك لن ينقص شيئا من حقوقك، إن الحقوق الإنسانية الأصلية ليست منة من أحد ويجب أن لا يمتلك أحد حق سحبها أو منحها، إن الحق في الحياة والحرية والعيش بكرامة والبحث عن الراحة والسعادة والمساواة وتكافؤ الفرص هي حقوق تولد مع الإنسان ولا يغتصبها إلا ظالم، أما الجنسية فهي علاقة بين الفرد والدولة التي يقيم فيها لها ضوابط ومحددات قانونية تضعها الدولة بما يتناسب مع مصالحها وتصوغها في قانون يسمى قانون الجنسية الذي ينطبق على كل أفرادها، ويساوي بينهم في كل شيء، من ولد أجداد أجداده فيها، أو من دخلها منذ عشر سنوات.

أخيرا أقول؛ إن الدول الحديثة تبنى بالقوانين والضوابط لا بالعواطف والمشاعر، والقوانين العادلة تمنع الظلم والتعدي، وما تعانيه أخواتنا الليبيات المتزوجات من أجانب وما يعانيه أبناؤهن هو ظلم صارخ يجب أن يرفع وخطأ فاضح لا بد أن يصحح، وإذا عجزنا أن نعامل هذه الفئة كما تعاملها دول العالم المتقدمة؛ فلنعاملها كما تعاملها دول الجوار، إن منح جنسية الأم الليبية لأبنائها هو حقها وحقهم وليس منة من أحد عليهم، ورفضنا وعنادنا ومكابرتنا لن يبرر عجزنا في تخطي خوفنا وجهلنا، وما تسببا فيه من ظلم وإجحاف.