السياسي

كيف انتصرت الردع بلا رصاصة؟

 كيف انتصرت الردع بلا رصاصة؟

 كيف انتصرت الردع بلا رصاصة؟

 

لأسابيع عدّة ظلّ سكّان العاصمة طرابلس واقفين على رؤوس أصابعهم، ينتظرون خروج أوّل رصاصة لاِشتعال حربٍ كانت ستكون كبيرة بين التشكيلات المسلّحة الموالية لحكومة "عودة الحياة" وبين قوّة الردع الخاصّة وحلفائها.

إلّا أنّه بجهدٍ من بعض التشكيلات المسلّحة من مصراتة بقيادة محمّد الحصان أُوقِفَ الصدام مؤقّتًا، حتّى تدخّل الأتراك وأوصلوا الجميع إلى اتفاقٍ وُقِّع عليه من الطرفين، فَنَزَل بذلك السّتار عن حربٍ يراها البعض أنّها أُجِّلت فقط، ويراه آخرون أنّها انتهت. 

وبين الرأيين نحاول في هذا المقال أن نحلّل بنود هذا الاتفاق، ونتلمّس مَن الذي خرج بنصيب الأسد منه أكثر من الآخر، أم أنّ الاتفاق ضمِن مصالح الجميع دون تمييز؟

حسب ما تمّ التصريح به حتّى الآن، فإنّ قوّة الردع من جهتها ستُسلِّم كل المطلوبين إلى مكتب النائب العام، ووافقت على أن يتمّ تعيين شخصية جديدة في جهاز الشرطة القضائية، ليست تلك التي وضعتها الحكومة والمعروف (بالسَّريعة) القريب من فيلّا الدبيبات ، بل شخصية شرطية جديدة، وقد تمّ ذلك.

كما وافقت قوّة الردع على دخول قوّة من رئاسة الأركان لتأمين مطار معيتيقة الدولي من الخارج، على أن تبقى باقي الأجهزة الأمنية والشرطية الرسمية هي المعنية بالمطار من الداخل، مقابل إقفال مكتب الردع داخل المطار.

أمّا الحكومة من جهتها فقد وافقت على إرجاع كل القوّات التي جلبتها من مدينة مصراتة إلى معسكراتها من جديد والمتمركزة حالياً في ضواحي العاصمة ، كما وافقت على أن تعيد قوّة الردع الخاصّة تمركزاتها الأولى بالكامل داخل العاصمة طرابلس كما كانت قبل هذا الصدام. ويتمّ هذا مع فتح الردع للسجون أمام النائب العام متى شاء وكيفما شاء.

هذا الاتفاق ستُشرف على تنفيذه قوّات فضّ النزاع، ويضمن الأتراك الالتزام به من الطرفين. وهنا يبرز سؤال: ما مصلحة الأتراك في التدخل لحلّ هذا النزاع؟ 

يرى بعض المتابعين أنّ الأتراك يعون جيدًا أنّ حكومة الدبيبة خارجة عاجلًا أم آجلًا من الحكم في طرابلس، وأنّ شراكتهم الاستراتيجية مع قوّة الردع المتمركزة في مطار معيتيقة أولى بالرعاية، فهي شريك هادئ وتمنحهم مساحة للتواجد في مطار معيتيقة العسكري، الذي يُعتبر من أكبر القواعد العسكرية في المنطقة والمطلّة على البحر الأبيض المتوسّط.

من جهة أخرى، فإنّ ما جعل الاتفاق مقبولًا من طرف الحكومة هو التباين في الرؤى بين التشكيلات المسلّحة المنضوية تحت أمرتها، وقد بيّنا هذا التباين في مقال سابق بعنوان: (هل تنتظر طرابلس حربًا بلا موعد مُعلَن؟) ، كما أنّ اختلاف حساباتها، خاصة بعد إحاطة تيته المبعوثة الأممية الأخيرة أمام مجلس الأمن بوجود خارطة طريق لحكومة جديدة، جعل الحكومة في موقف حرج، خصوصًا وأنّ مجلس الأمن أيّد هذه الخارطة بالإجماع.

كذلك فإنّ تمركز قوّة الردع داخل منطقة سوق الجمعة، التي قرّرت أن تحميها من أيّ اعتداء وشكّلت حماية مجتمعية كبيرة لها، جعل فكرة الدخول في حرب ضدّها إعلانًا بالدخول في صراعٍ طويلٍ لا ينتهي سريعًا، مع غياب أيّ مؤشّرات حقيقية على أنّ الحكومة وتشكيلاتها ستنتصر فيه.

ولأنّ قوّة الردع كانت هي المستهدفة من الهجوم وهي في حالة دفاع، فقد رأى كثيرون أنّها كسبت من هذا الاتفاق أكثر من الحكومة ، حيث لم تتمكّن الحكومة من إنهاء قوّة الردع كما كانت تسعى، ولم تتمكّن من إخراجها من مطار معيتيقة. وما دامت القوّة لا تزال في القاعدة، فكلّ ما فيها وما عليها وما يعلوها وما في باطنها هو رهن قرارها ، كما أنّ الترتيبات التي وُضعت، كإدخال قوّة لتأمين المطار من الخارج، ليست سوى مظهر شكليّ لإشعار الحكومة أنّها كسبت شيئًا، بينما في الحقيقة لم تكسب سوى الوهم. 

أيضًا فإنّ استرجاع الردع لكلّ تمركزاتها من جديد داخل العاصمة طرابلس يُعَدّ إعلانًا بفشل الحكومة في محاولاتها محاصرة الردع داخل نطاق سوق الجمعة فقط. وهكذا تسترجع الردع نفوذها العسكري والأمني كاملًا، إضافةً إلى حفاظها على سيطرتها على السجن الموجود في قاعدة معيتيقة.

كلّ المؤشّرات الظاهرة تقول إنّ الدبيبات لم يرجعوا حتّى (بخُفّي حُنين) من هذه المغامرة التي خاضوها في طرابلس، وإنّ عزلتهم ستزداد بعد الاتفاق أكثر ممّا كانت قبله ، كما أنّ قوّة الردع بعثت برسالة قويّة لكلّ من يفكّر بالسيطرة على طرابلس: أنّ هناك بابًا واحدًا فقط للدخول إليها، هذا الباب موجود في معيتيقة، وصاحب الباب هو عبد الرؤوف كارة.

كما أنّ هذه الأزمة بيّنت أنّ قوّة الردع تطوّرت بشكل كبير جدًّا على المستوى السياسي، فلم تعد ذلك التشكيل المسلّح الذي يعتمد على الرصاص فقط لإثبات وجهة نظره، بل أظهرت مرونةً ومراوغةً سياسيةً كبيرة. ويرى بعض المتابعين أنّ الردع انتصرت في هذه الجولة بالصبر والتروّي وقياس العواقب وإدارة البشر والإمكانيات المجتمعية ، أكثر من اعتمادها على القوّة العسكرية. 

 

لن يتغيّر الكثير بالنسبة لك، عزيزي المواطن في طرابلس، بعد انتهاء هذه الجولة. حسبك أنّ بيتك لم يتدمّر الآن، لكن لن تجد أحدًا اليوم يملك أن يعدك بأنّه لن يُهدم في قادم الأيّام!