مبادرات أممية في متاهات ليبية "الحل المستحيل! "
في ظل استمرار الجمود السياسي الذي يلف بلادنا منذ أكثر من عقد من الزمان، وبعد مبادرات وحوارات تاهت في دهاليز الأزمة الليبية، تطل علينا بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بمبادرة جديدة تُضاف إلى سلسلة المبادرات السابقة التي لم تفضي إلى أي تغيير.
أعلنت القائمة بأعمال رئيس البعثة في ليبيا بالإنابة ستيفاني خوري الشهر الماضي عن تفاصيل مبادرتها التي تحصلت على تزكية مجلس الأمن الدولي، وأعلنت البعثة يوم الثلاثاء عن تشكيل "اللجنة الاستشارية" التابعة لمبادرة خوري، هذه الخطوة جاءت بعد أيام قليلة من تعيين حنه سيروا تيتيه مبعوثةً خاصة جديدة، وفي ظل هذه المعطيات تبرز تساؤلات حول إمكانية تحويل هذه الخطوات إلى فرص حقيقية للحل، أم أنها مجرد إجراءات شكلية في سياق أزمة يعجز المجتمع الدولي عن إدارتها.
يوم الثلاثاء أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عن تشكيل لجنة استشارية تضم 12 عضوا ممن وصفتهم بـ (خبراء قانونيين وسياسيين ليبيين)، بهدف مراجعة قوانين الانتخابات ووضع مقترحات لتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، ورغم أن المبادرة أعطت لنفسها صفة الـ "خطوة لتعزيز الحوار"، إلا أن كون مهمة لاعبها الأساسي –اللجنة الاستشارية- هي إعطاء المشورة فقط ؛ فإن هذا يثير شكوكاحول جدواها، وذلك لأن اللجنة لا تملك سلطة إلزامية، ومقترحاتها لن تكون ملزمة للأطراف الليبية، خاصةً مع تشبث الكتل السياسية الحاكمة بمواقعها ومكاسبها، وكذلك مع غياب الضمانات الدولية، حيث أن البعثة لم تعلن عن آلية لمتابعة تنفيذ التوصيات، أو حتى ضغط دولي لتبنيها.
أضف إلى ذلك استمرار الانقسامات الداخلية، وتمترس الحكومة في طرابلس بمواقعها واستقوائها بجماعات مسلحة تقتسم معها السلطة، وتمترس حكومة الشرق بمواقعها واستقوائها بخليفة حفتر وقواته، وهذا ما يضعف أي حوار لا يعالج هذه الإشكالية الجوهرية (تمترس سلطات الشرق والغرب بمواقعها واستقوائها بالمجموعات المسلحة).
وفي ظل استمرار الوضع القائم؛ فإن هذه المبادرة لا تعدو عن كونها تذكير بمحاولات سابقة فشلت بسبب غياب الإرادة السياسية، مثل الحوار الوطني عام 2015 . والمؤتمرات الدولية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، والحوار السياسي الذي رعته البعثة نفسها في جنيف سنة 2020، مما يطرح تساؤلا لا بد منه: هل مبادرة خوري ولجنتها الاستشارية مجرد مسكن مؤقت؟ أم أنها تمتلك مقومات الحل الدائم؟
وكما ذكرنا آنفا فقد تزامن إعلان تشكيل اللجنة الاستشارية مع تولي المبعوثة الأممية الجديدة حنة تيتيه لمهامها، حيث تواجه هذه الأخيرة تحديات جسيمة تبدأ من الانقسام الدولي في مجلس الأمن، والخلافات الروسية-الأمريكية حول الملف الليبي التي تعيق إصدار قرارات فعالة، حيث تسعى روسيا لتعزيز نفوذها وتعويض خسائرها في ليبيا عبر دعم قوات حفتر في شرق ليبيا، بينما تحاول الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي الحد من هذا التمدد، ومنع روسيا من الحصول على قواعد مؤثرة تهدد خاصرة أوروبا وتهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
كما تواجه مهمة تيتيه صراعات إقليمية متشعبة، فتركيا التي أصبحت من أبرز اللاعبين على الساحة الإقليمية تدعم حكومة الدبيبة، بينما مصر والإمارات تتخذان من شرق ليبيا قاعدة لمواجهة النفوذ التركي، وإن أظهر الجانبان مرونة في التعامل مؤخرا، كما يبرز كذلك الصراع الأوروبي على النفوذ الاقتصادي؛ فإيطاليا تميل إلى الحكومة في طرابلس، بينما تميل فرنسا –التي بدأت بخسارة نفوذها في إفريقيا- إلى حفتر وتسعى إلى تعزيز وجودها في الجنوب الليبي الذي يسيطر عليه حفتر عسكريا.
ومع الصراع الدولي والنزاعات الإقليمية؛ يبقى غياب الإرادة الوطنية هو أهم معوقات الحل السياسي في ليبيا، فكل الفصائل الليبية – سواء في الشرق أو الغرب – ترفض التنازل عن السلطة أو الثروة، وتستخدم الخطاب الوطني العاطفي ذريعةً لبقائها وتمددها وإقصاء كل خصومها.
هذه العوامل تجعل مهمة تيتيه أشبه بـ"إدارة الأزمة" بدلًا من حلها، خاصةً مع محدودية الصلاحيات الأممية في ظل غياب توافق دولي.
ورغم الإعلان عن عقد جولات حوارية جديدة، إلا أن احتمالات نجاحها تبدو ضئيلة في ظل تشبث الأطراف بمواقعهم، فمجلس النواب يصر على قوانين انتخابية يستحيل تطبيقها، كما يصر على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة، ما يجعل خصومه يعتبرون أن موافقته على الانتخابات هي مجرد ذر للرماد في العيون، بينما لا زال المجلس الأعلى للدولة منقسما على نفسه، ولا ممثل متفق عليه يمثله في الحوارات السياسية المرتقبة، إضافة إلى رفض الحكومة في طرابلس لأي إجراءات تهدد وجودها، وتشديدها على أن الحل يبدأ من الاستفتاء على الدستور الذي يرفضه حفتر ومجلس النواب.
ومع تشبث كل طرف بموقفه؛ يستمر تدفق الأسلحة على البلاد رغم القرارات الأممية، حيث أكدت تقارير دولية أن تركيا وروسيا والإمارات لا تزال تنتهك حظر الأسلحة، مما يغذي الاستعداد لمواجهات عسكرية بدلا من الحوار ، ويعزز هذا التوجه؛ الانقسام المجتمعي في ظل غياب الثقة بين المكونات الليبية – بسبب سنوات من الصراع– وهو ما يجعل أي حوار غير مضمون النتائج.
في هذا السياق، تبدو مقترحات اللجنة الاستشارية – مثل تعديل قانون الانتخابات – غير كافية لتحقيق توافق، ما لم ترفق بضغوط دولية حقيقية لإجبار الأطراف على التنازل.
وهنا نجد أنفسنا أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة خلال الفترة القادمة:
أولا: استمرار الجمود؛ وهو السيناريو الأكثر ترجيحا، في ظل تعثر الحوار وتراجع الاهتمام الدولي بليبيا لصالح أزمات أخرى (مثل أوكرانيا وغزة).
ثانيا: تصعيد عسكري محدود؛ فقد تلجأ بعض الفصائل إلى عمليات عسكرية لتحسين مواقعها التفاوضية، خاصةً مع استمرار التدخلات الخارجية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، وقد بدت بوادر هذا الاحتمال واضحة من تصريحات صدرت عن حفتر مؤخرا، إضافة إلى تحركات عسكرية لقواته في الجنوب، ومناورات عسكرية واسعة في سرت.
ثالثا: وهو الاحتمال الأضعف والأبعد: مفاجأة سياسية تحدث بأن تتوصل المبعوثة الجديدة إلى صيغة توافقية غير متوقعة، بدعم دولي، أو ضغوط إقليمية غير مسبوقة.
وختاما نقول إن استمرار المشكلة الليبية ليس بسبب غياب المبادرات، بل بسبب غياب الآليات الفعلية لتنفيذها، فليبيا – للأسف – تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية، تستخدمها بعض الدول لتدريب مرتزقتها وتهديد خصومها، في وجود قادة ضعفاء لا هم لهم إلا البقاء في السلطة وإقصاء خصومهم، ولو كان ذلك بتطويع البلاد وثرواتها لقوى خارجية.
ومن الناحية الدولية فلن تنجح أي مبادرة دون خطوات جذرية تفضي إلى إضعاف المليشيات المتصارعة والتي لا تمثل الحكومات إلا واجهة براقة لها، من هذه الخطوات؛ فرض حظر أسلحة فعلي بآلية مراقبة صارمة؛ وعقوبات دولية تستهدف ممولي الميليشيات وقادة الكتل المنقسمة، ودعم مؤسسات محايدة (القضاء، المفوضية العليا للانتخابات، هيئة صياغة الدستور) بعيدا عن الهيمنة السياسية.
لكن في ظل واقع تسيطر فيه المصالح الضيقة على القرار الدولي، يبدو أن ليبيا ستظل رهينة "الحل المستحيل" إلى حين انتهاء لعبة المصالح الكبرى، أو استفاقة الشعب وإدراكه أن انتظار الآخر هو كانتظار (علي لوصول الزيت من غريان).