رمضان: شهر لم يعد يأتي!!!
مع اقتراب شهر رمضان، يتغير سلوك الناس بطريقة غامضة وغير مفهومة، وكأننا أمام ظاهرة كونية تستحق دراسة معمقة. تتحول الأسواق إلى حلبات مصارعة، ويصبح المستهلكون محاربين مدججين بعربات التسوق التي تتحرك بسرعة تكاد تخرق قوانين الفيزياء. الجميع في عجلة من أمرهم، وكأن إعلانًا سريًا قد صدر بأن الأرض ستُبتلع بعد أيام، وأن السبيل الوحيد للنجاة هو تكديس أكبر كمية ممكنة من السلع الأساسية، مثل الأرز والسكر واللحوم والزيوت.
من المفترض أن رمضان شهر الصيام، أي الامتناع عن الطعام والشراب خلال النهار، لكن عقلية الاحتياط الاستراتيجي لدى البعض تحوله إلى مهرجان استهلاكي ضخم، حيث يتم شراء الطعام بكميات توحي بأن العائلة الواحدة تستعد لإطعام سكان قارة كاملة. المشكلة ليست فقط في كمية المشتريات، بل في ذلك الشعور العجيب بأن الحياة الطبيعية ستتوقف خلال هذا الشهر، رغم أن الأسواق ستظل مفتوحة، والمحلات لن تعلن عن انقطاع المواد الغذائية، ولا يوجد خطر وشيك يهدد مخزون الغذاء العالمي.
وبالطبع، لا يقتصر الأمر على شراء المواد الأساسية فحسب، بل يمتد إلى كل شيء في المنزل تقريبًا، وكأن رمضان شهر إعادة تأثيث المنازل وتغيير الديكور وتجديد الأجهزة الكهربائية. فجأة، يصبح اقتناء فرن كهربائي جديد، وغسالة أحدث، وشاشة تلفزيون أكبر من الضرورات الرمضانية التي لا يمكن الاستغناء عنها. والسبب؟ لا أحد يعلم بعد! ربما هناك اعتقاد ضمني بأن أداء العبادات يكون أكثر روحانية عندما يكون المطبخ مجهزًا بأحدث الأدوات الكهربائية والأواني الجديدة، وأن مشاهدة البرامج الدينية على شاشة عملاقة يزيد من نسبة الحسنات!
ثم تأتي مرحلة التخزين، وهي عملية تشبه تجهيز مستودعات الطوارئ في المناطق المنكوبة. يُملأ كل درج وكل زاوية في المطبخ بأكياس قد لا تُفتح أبدًا، وكأن الهدف الأساسي ليس استهلاك الطعام، بل مجرد امتلاك أكبر كمية ممكنة منه. والطريف في الأمر أن الكثير من هذه الأغراض يظل على حاله حتى انتهاء الشهر، ليُكتشف لاحقًا أن نصفه قد انتهت صلاحيته، فيبدأ موسم التخلص من الفائض، وكأن شيئًا لم يكن.
أما المبرر لهذه الحالة الهستيرية، فهو بلا شك الخوف من ارتفاع الأسعار، فيكون الشعار: “لنشترِ الآن قبل فوات الأوان!” وهنا ندخل في أعجوبة اقتصادية تستحق التدريس في أرقى الجامعات. فبمجرد أن يبدأ المستهلكون في الهجوم على الأسواق وكأنهم في “بلاك فرايدي”، يلتقط التجار الإشارة بسرعة البرق، ويفكرون: لمَ لا نرفع الأسعار فعلًا؟ طالما أن الناس يتسابقون للشراء بجنون، فلنستغل الموقف! وهكذا، بفضل “ذكاء” المستهلكين، يتحقق الغلاء الذي كانوا يخشونه، فيلومون التجار ويشكون من ارتفاع الأسعار، متناسين أنهم هم من تسببوا فيه ، وفي هذا المهرجان الفوضوي، تظهر وزارة الاقتصاد كضيف شرف دائم، تصدر بيانات رسمية مليئة بالوعود البراقة مثل “مراقبة الأسواق” و”ضبط الأسعار”، بينما الواقع شيء آخر تمامًا. فالتجار يرفعون الأسعار كما يحلو لهم، والمواطنون يدفعون على مضض، والوزارة تراقب المشهد عن بُعد، وكأنها تستمتع بمسلسل رمضاني شيّق.
أما الجهات الرقابية، فتبدو وكأنها تتبع استراتيجية “الظهور الرمضاني الحصري”، حيث تنشط خلال الأيام الأولى من الشهر، تلتقط بعض الصور لموظفيها وهم يتفقدون الأسواق، ثم تختفي تدريجيًا، وكأنها ذابت تحت حرارة المنافسة بين التجار على من يرفع الأسعار أكثر.
وبعد يوم كامل من التسوق المحموم، تأتي اللحظة الحاسمة: الإفطار. وهنا، يتحول المطبخ إلى خط إنتاج صناعي، حيث يتم تحضير عشرات الأطباق، وكأن الأسرة تتوقع وصول أعداد ضخمة من الزوار لتناول الطعام معهم. المشكلة أن الجميع يكونون قد فقدوا شهيتهم بعد أول طبق، فيتحول ما تبقى من الوليمة إلى ديكور على سفرة الطعام، قبل أن ينتهي به المطاف في سلة المهملات.
والأدهى من ذلك أن البعض لا يكتفي بهذا، بل يصر على استمرار هذه الحفلة حتى السحور، فتُعد موائد أخرى، وكأن المعدة لديها قدرة خارقة على استيعاب كميات لا محدودة من الطعام خلال ساعات الليل القصيرة. ثم يأتي الصباح، ويبدأ يوم جديد من الشكوى من التخمة وألم المعدة وحرقتها، قبل العودة إلى دورة الاستهلاك المفرط من جديد.
في النهاية، يُطرح السؤال الأهم: هل أصبح رمضان موسمًا استهلاكيًا بحتًا أكثر من كونه شهرًا للعبادة؟ هل باتت قيم الاعتدال وعدم الإسراف مجرد شعارات نسمعها في الخطب الدينية بينما نمارس عكسها تمامًا؟ وهل سنستمر في تكرار هذه العادات كل عام، أم أننا سنستيقظ يومًا ونقرر أن رمضان لا يحتاج إلى كل هذا الهلع، وأن جوهره الحقيقي يكمن في البساطة، لا في امتلاء عربات التسوق وطاولات الطعام؟
حتى يحين ذلك اليوم، إذا حان أصلًا، سيبقى المشهد السنوي كما هو: سباق استهلاكي محموم، ارتفاع في الأسعار، ولائم زائدة، وأكوام من الطعام المهدور، ثم في النهاية، دروس دينية عن ضرورة الزهد والتقشف.