اجتماعي

الأصابعة: لا إجابة حتى يتكلم الجِنّي!

 الأصابعة: لا إجابة حتى يتكلم الجِنّي!

 الأصابعة: لا إجابة حتى يتكلم الجِنّي!

 

 

مدينة ليبية صغيرة هادئة في قمة الجبل الغربي تدعى "الأصابعة"، اشتعلت النيران فجأة في عشرات المنازل خلال الأيام الماضية دون سبب واضح، لتنضم المدينة إلى قائمة الأماكن التي تحاك حولها الأساطير والروايات الخارقة للطبيعة، فكما حدث في حوادث مشابهة حول العالم، سارع السكان إلى اتهام الجن والسحر والعين الحسودة، متجاهلين أي محاولة للبحث عن تفسير علمي وموضوعي لهذه الظاهرة، ولجوء الناس إلى هذه التفسيرات ليس جديدا، بل هو انعكاس قائم ومستمر لصراع قديم بين العقل البشري المولع بالغموضوالأسرار، وبين الواقع البسيط والحقيقة المجردة التي غالبا ما تكون بسيطة إلى درجة الملل.

 

سعي الإنسان إلى نسبة ما لا يستطيع فهمه وتفسيره إلى قوى ما ورائية، هو قديم قدم الإنسان نفسه، وقدم الوجود البشري على كوكب الأرض، فقد عبد الناس قديما الشمس والقمر والمطر والبرق والرعد وغيرها من الأجرام السماوية والظواهر الطبيعية لعجزهم عن فهم طبيعتها، وبدل البحث والتدقيق؛ لجأ الإنسان دائما إلى التفسير الذي يصعب إثبات عكسه بمجرد الكلام، قوى خارقة للطبيعة ومخلوقات غيرنا تتحكم في مصائرنا، ورغم مخالفة هذه التفسيرات للقرآن الكريم؛ إلا أن سكان بلاد المليون حافظ لم يستفيدوا من حفظهم للقرآن إلا في استعماله كرقى وتعويذات لمحارية الأرواح الشريرة، بدلا من استلهام آيات الله عز وجل في فهم الكون وطريقة عمله المبنية على السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا).

وفي التاريخ عشرات الحوادث التي نسبت إلى الجن والسحر والأرواح الشريرة، ثم تبين لاحقا أن لها تفسيرا بسيطا لم يتقبله الناس في حينه، ببساطة لأنه خال من الإثارة ولا يخاطب حب الناس للغموض والأسرار.

 

ففي أمريكا مثلا في منتصف القرن السابع عشر، في منطقة تدعي (سيلم) حدثت ظاهرة غريبة تمثلت في إصابة سكان محليين بنوبات غريبة من الهلوسة والغياب عن الوعي، واتهم الناس حينها النساء بممارسة السحر، وبدأت حملة من اصطياد الساحرات راح ضحيتها العشرات من النساء البريئات التي كن يلقى بهم في النهر لمجرد الاشتباه في ممارستهن السحر، وبعد سنوات أثبتت الدراسات أن ما حدث كان بسبب تسممات فطرية ناتجة عن خبز ملوث بفطر الإرغوت، الذي يسبب هلوسات وتشنجات، والذي أصبح لاحقا مصدر دخل لآلاف من تجار المخدرات الذين لا يزالون يستخدمونه حتى اليوم، دون أن يتهموا بالسحر أو يلقى بهم في النهر.

حوادث الاعتداءات والاختطافات الغامضة طوال القرون الماضية، والتي كانت خيالات الناس تشطح لنسبتها للجن تارة، وللفضائيين تارة أخرى، والتي تبين لاحقا أن معظمها مزيف ومفبرك لجذب الانتباه لا أكثر، ومع هذا ما زال الناس يتقبلون نسبة الحوادث المشابهة للماورائيات؛ ببساطة لأن الحقيقة مملة والأسطورة مشوقة.

 

حوادث الحرائق المفاجئة والغامضة كانت وستبقى حدثا دوريا يحدث باستمرار، وفي كل حالة، كان التفسير المادي موجودا، لكنه طمس تحت رغبة الجماهير في تصديق ما يثير الخيال. 

 

ولكن السؤال هو لماذا نلجأ إلى التفسيرات الخارقة؟ ..

 

السبب قد يختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر، ولكن في الجملة، العقل البشري مبرمج على رفض الفراغ، لذا يملأ المجهول بقصص ترضي فضوله، خاصة في المجتمعات التي تفتقر إلى الثقافة العلمية، حيث في مثل هذه المجتمعات؛ تقدم التفسيرات الماورائية إثارة درامية، ففكرة صراع بين البشر والجن، ومقتل أحد ملوك الجان في مغارة في الجبل وسعي أتباعه للثأر له، أكثر تشويقا من تقريرعلمي أو هندسي عن تسرب غاز الميثان أو قصور في دائرة كهربائية.

 

أضف إلى ذلك السعي الدائم للتهرب من المسؤولية والمساءلة، فكشف أسباب الحريق قد يكشف تقصيرا في البنية التحتية أو إدارة الأزمات، وهو ما ترفضه الحكومات والسلطات المحلية، فتسعى لتهدئة القلق، بتحميل "القوى الشريرة" مسؤولية الكوارث، فيشعر المواطن أنه ضحية لهجمات يعجز عن مواجهتها، وليس شريكا في الإهمال.

 

في حوادث الأصابعة، يمكن وقبل حتى البدء في التحقيق استنتاج تفسيرات عقلانية محتملة، مثل الأعطال الكهربائية خاصة مع قدم وتهالك الشبكة، تسرب غاز الميثان خاصة بعد الهزات والتشققات الأرضية التي حدثت مؤخرا، لكن هذه الفرضيات وغيرها لا تجد من يروج لها، لأنها لا تلامس ذلك الجزء من وعينا الذي يشتاق إلى الأساطير.

 

في عصر السوشيال ميديا، صارت النظريات المثيرة عملة رائجة، فما قيمة حريق ناتج عن التماس كهربائي، أمام قصة شياطين يسعون للانتقام لملكهم المغدور تنشر على فيسبوك بمؤثرات بصرية وسمعية؟ المشكلة أن هذا التوجه يعمق الجهل ويصرف الانتباه عن الحلول الجذرية، ففي الأصابعة، بدلا من إرسال الخبراء للتحقيق في الحرائق وكشف الأسباب الحقيقية، يطالب الناس بإرسال ما يسمى بـ"لجنة حصين" لترقي المدينة وتحصنها انتقام الجن الغاضبين.

إن تحويل كل ظاهرة غير مفهومة إلى معركة مع الجن يخالف حتى القرآن نفسه الذي تستعمله لجنة حصين في حربها ضد الجن، فالتاريخ يعلمنا أن الإنسان تقدم عندما استبدل الخوف بالفضول، والخرافة بالبحث، وربما يأتي قريبا اليوم الذي نكتشف فيه أسباب حرائق الأصابعة، لكن المؤسف حقا أنه حتى حينها لن يصدق الكثيرون الحقيقة المجردة، ببساطة؛ لأن الحقيقة مملة ولا تحمل عادة أي جانب من الإثارة، بخلاف الأسطورة والخرافة ونظرية المؤامرة.

 

 

ربما لن تتوقف حرائق الأصابعة عن إشعال الأسئلة قبل أن تطفأ أسبابها الحقيقية، وحتى عندما تزيح التحقيقات العلمية غبار الخرافة، سيبقى الإنسان أسيراً لسردياته المثيرة التي تمنحه وهم السيطرة على المجهول، مع أن القرآن الكريم، الذي استخدمت آياته كتعاويذ بدل أن تكون منارا للتفكر، يذكرنا: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (إن في خلق السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب)، فهل نستحق لقب "أولي الألباب" إذا حولنا الحريق إلى ثأر جني مزعوم لملكه، أو إلى مؤامرة شيطانية يقودها مارد محبوس في مغارة؟