مؤامرة التوطين: هل يريد الأفارقة حقا العيش في صحرائنا.. أم أن السياسيين يريدوننا أن نصدق ذلك؟
أسمع منذ سنوات تحليلات عبقرية عميقة عن مؤامرة كونية، تسعى لتوطين الملايين من الأفارقة من دول جنوب الصحراء؛ في الجنوب الليبي، ودائما كنت أقول لنفسي؛ لو كان للمهاجرين الأفارقة رأي في مؤامرة التوطين التي يصرخ بها البعض في ليبيا، لسخروا منا طويلا، فبينما يتنافس السياسيون هنا على إلقاء تهمة التماهي مع هذه المؤامرة الدولية المفترضة على بعضهم، ينسى الجميع سؤالا بسيطا: لماذا يرغب مهاجر عبر آلاف الكيلومترات من أديس أبابا أو لاغوس أو غيرها – مدن يتجاوز تعداد سكانها 10 مليون نسمة – في الاستقرار بمنطقة لا تكفي مياهها ومواردها لسكانها الأصليين، والذين يهجرونها بدورهم إلى طرابلس ومصراته وبنغازي؟!
الإجابة الصادمة وغير المحببة عن هذا السؤال؛ هي أنه لا توجد مؤامرة دولية تستطيع تحويل سبها أو مرزق أو القطرون أو غيرها إلى وجهة جاذبة للمهاجرين، فحتى الخدمات الأساسية – مياه، كهرباء، صحة – غائبة عن معظم الجنوب، وهو ما دفع آلاف الليبيين للهجرة شمالا، فكيف لمؤامرة أن تجعل الأفارقة يتنافسون على العيش في مناطق يهجرها أهلها؟
المهاجر القادم من مدينة مثل كينشاسا (9 مليون نسمة) أو أبيدجان (4 ملايين) أو أكرا (3 ملايين نسمة) لا يرى في طرابلس أو الزاوية حلم الحياة والاستقرار، بل مجرد محطة عبور، هو يبحث عن أوروبا، لا عن واحة خيالية في وسط الصحراء تخلو من أبسط مقومات الحياة، وتذكر أن الأفارقة يدفعون آلاف الدولارات للمهربين ليس لكي ينتهي بهم المطاف في الكفرة، بل ليصلوا إلى أوروبا.
دول أوروبا تريد التخلص من المهاجرين، ولا تريد لهم أن يصلوا إلى مرافئها، وباستثناء بعض جماعات حقوق الإنسان؛ فإن الحس العام في أوروبا مستعد لقبول حتى فكرة غرقهم في البحر، أو موتهم عطشا في الصحراء، ولكن أن يصل بهم الأمر لإنفاق المليارات لتحويل قرى الجنوب الليبي إلى "ميتروبوليتانات" عالمية، فهذه في الحقيقة ليست أكثر من شطحة خيال، وتهمة يلقي بها الخصوم السياسيون في ليبيا على بعضهم، حتى تحولت إلى سلاح سحري في حربهم القذرة، فالحكومة في الغرب تتهم خصومها في الشرق بالتواطؤ مع الخارج وبيع البلاد، وتؤكد أن الالتفاف حولها هو ملاذنا الوحيد وحصننا الأخير أمام التغيير الديموغرافي القادم.
هل يسكت خصوم السلطة؟ لا، يردون عليها بالمثل القائل: "رمتني بدائها وانسلت"، ويتهمونها بأنها تبيع الأرض والعرض للمستعمر ليبني مدن الأحلام للمهاجرين على أرضنا! والنتيجة؛ شعب مشغول بقتال الأشباح، بينما تسرق موارده الحقيقية كل يوم ، ونفس الساسة الذين يتهم بعضهم بعضا بالتواطؤ مع المؤامرة، هم من يستخدمون المهاجرين كأداة ضغط في مفاوضاتهم مع الاتحاد الأوروبي.
أخي المواطن البسيط، المهاجر الأفريقي ليس عميلا، ولا محتلا، بل هو إنسان فقير يفر من واقع قد يكون أسوأ من واقعنا، واسأل نفسك؛ لو كنت مكانه، هل كنت لتبقى في غات أم تحاول الوصول إلى إيطاليا؟
وبدلا من مواجهة أسباب الأزمة الحقيقية (الفوضى الأمنية، انهيار الاقتصاد، الانقسام السياسي)، نلقي باللوم على مؤامرة خارجية تسعى لاستبدالنا، ويتم استغلالنا في حرب سياسية بين خصوم سياسيين لو كانوا صادقين حقا لبنوا مراكز حدودية فعالة توقف تدفقات المهاجرين، ولسعوا إلى تطوير الجنوب حتى يرغب أهله في البقاء فيه.
أخي المواطن البسيط، لا تدع كراهية الآخرين تعمي بصيرتك، فالشاب الإفريقي الذي تراه في الشارع ليس عدوك، بل هو مرآة تعكس فشل وفساد الأنظمة في إفريقيا، وتعطيك صورة مستقبلية لما يمكن أن يكون عليه مستقبلك ومستقبل أولادك إن لم يتوقف نزيف الفساد ونتجه لبناء دولة حقيقية.
لنوقف استغلال المهاجرين ككبش فداء لأزماتنا، ولنطالب بحلول حقيقية وجذرية لمشاكلنا؛ مصالحة وطنية توقف نزيف الدم، إصلاح اقتصادي يصلح حال الشرق والغرب، ويجعل الجنوب جنة لأهله قبل الآخرين.
ولنتوقف قليلا مع إنسانيتنا؛ فنحن لسنا أفضل من المهاجرين، بل نحن مثقلون بنفس الآلام (الظلم، الاستبداد، الفساد) ونحمل نفس الأحلام (الراحة، الحرية، السعادة).
قبل أن تنخرط في لعبة المؤامرة التي يضع قواعدها الساسة المتخاصمون، تذكر أن الجنوب الليبي لم يعد يحتمل حتى أهله، فكيف يصبح مأوى لملايين الأفارقة؟ والتهمة الجاهزة ليست إلا قنبلة دخان تعمي أعيننا عن سرقة أراضينا وثرواتنا.
لنتوقف عن هذا العبث ولنرفض أن نكون دمى في مسرحهم، ولنصرخ في وجههم: كفى كذبا وتزويرا وسرقات، ابنوا لنا وطنا يستحق البقاء فيه، أو اتركونا نرحل مثل هؤلاء الذين تصورونهم لنا على أنهم غزاة.
العبثية ليست فقط في تصديقنا رغبة الأفارقة بالاستقرار في صحرائنا، بل أيضا في تصديقنا أن صحراءنا قادرة على استيعابهم، والسياسيون مستمرون في بيعنا الوهم لأنهم لا يستطيعون مواجهتنا بالحقيقة المخجلة، وهي أن بلادنا ليبيا تتداعى وتسقط، وبدلا أن ننقذها، نبحث عن أعداء وهميين ليشعرنا انتصارنا عليهم بأننا (لا نبالي إن سلمت من هلك!).