الردع ترجع بلا صوت، والقصة ما زالت تُكتب!
في فقه التشكيلات المسلحة الذي نشأ منذ اندلاع الثورة الليبية، هناك مبدأ ثابت يقول: إن من يترك جزءًا من مساحة نفوذه لا يعود إليها، وهذا المبدأ لم يتغير تقريباً، إلا أن الأيام في ليبيا علمتنا أنها دائمًا حُبلى بالمفاجآت.
فبعد أن قرر وزير الداخلية في حكومة “عودة الحياة”، اللواء ركن عماد الطرابلسي، إفراغ طرابلس من كل التشكيلات المسلحة في وسط العاصمة، وتسليم كل المقرات التي كانت بحوزتها إلى وزارة الداخلية، بغض النظر عن كون هذا التسليم يحمل الرقم 36 ألف لهذه المقرات، فلنُقرّ بأن كل التشكيلات المسلحة قد سلمت مقراتها لوزير الداخلية. والمقصود بالتحدي هنا هو جهاز دعم الاستقرار وجهاز الردع الخاص، حيث التزمت هذه الأجهزة بتسليم جميع المقرات التابعة لها في وسط العاصمة. رغم وجود بعض المتابعين يرون ان ليس كل التشكيلات المسلحة سلمت مابحوزتها من مقرات.
واستنادًا إلى المبدأ الذي انطلقنا منه في النص، فمن المفترض أن هذه المقرات لا تعود إلى أصحابها وفقًا لفقه التشكيلات المسلحة. ولكن، كما يُقال، لكل قاعدة استثناء، والردع اليوم هو الاستثناء! فقد لوحظ خلال الفترة الماضية أن جهاز الردع استعاد جميع المقرات التي كانت تتبعه في وسط العاصمة طرابلس، وذلك بشكل هادئ ودون أي قرقعة سلاح!
وقد يقول البعض: “ما يصلح للردع قد لا يصلح لغيره”. وهذا منطقي، إذ رغم أن قوة الردع تراجعت إلى مقراتها امتثالًا لخطة وزير الداخلية، فقد أعاد البعض هذه الخطوة إلى كون الردع، التي يحسبها البعض ضمن صف الصديق الكبير في صراعه مع حكومة “عودة الحياة” - نتيجة لتأمينها المصرف المركزي وللصديق الكبير شخصيًّا - قد خسرت بخروج الصديق من قلعة المصرف المركزي، ولهذا امتثلت للأمر ، لكن يرى آخرون أن مسار القوة خلال السنوات الماضية يُظهر أنها متأنية جدًّا في قراراتها، وتختار صراعاتها بدقة، وتعرف متى تقبل ومتى ترفض. ويتجلى ذلك بوضوح في إنقاذ القوة لرئيس حكومة “عودة الحياة” من أيدي المتجمهرين حول بيته في طريق الشط - وهي منطقة نفوذ القوة - الذين كانوا يرفضون تصريحات نجلاء المنقوش حول محاولة الحكومة التطبيع مع الكيان الهلامي.
في الوقت الذي توقع فيه الكثيرون أن القوة لن تتدخل، اختارت أن تتدخل! ويرى كثيرون أنه لولا تدخل القوة في تلك الليلة، لكان الوضع قد سار نحو سيناريو لا يتخيله حتى أكثر المتشائمين. وحينها، وفي اللحظة الحاسمة، قالت القوة للحكومة، ولوزير الداخلية، ولكل الليبيين: “طرابلس أنا، ومن عندي البداية والنهاية!”
لم يمر أسبوع على هذه الحادثة، حتى رأينا سيارات القوة تعود بهدوء إلى مقراتها، وتستأنف جولاتها في وسط العاصمة، فيما يخرج صوت صفير الحقل من مبنى وزارة الداخلية! وصوت بعض المتابعين يهمس: “ماذا حدث لخطة تأمين العاصمة التي أعلن عنها وزير الداخلية؟!”
قلنا سابقًا، ونكرر الآن، أننا نحاول تحليل مآلات الأحداث في سياق التشكيلات المسلحة التي تتحكم في حياتنا، وأي تعديل عليها كفيل بتغيير مسار حياة المواطن الذي يعيش في طرابلس بشكل مباشر، وبدرجة أقل على حياة المواطن الذي يعيش في طبرق. ولهذا، لا نملك هنا صكوك الغفران، نحن فقط نحاول أن نفهم.
وقد فهمنا حتى الآن أن ما يسري على بائسي التشكيلات المسلحة في ليبيا لا يسري على قوة الردع، وأن التطور الملحوظ في تصرفات هذه القوة خلال السنوات الماضية يشير إلى أن هناك عملاً أكثر حِكمة يتجاوز الجانب العسكري. ولم يعد الأمر يتعلق فقط بـ “إخراج الأرتال وتسريح السلاح”، بل نحن أمام أجسام تتحول إلى مؤسسات تُدار بعقلية هادئة، أكثر من كونها عسكرية أو أمنية. ويمكن لأي متابع لمسار تطور هذه القوة أن يلاحظ ذلك، بدءًا من إنهاء النواصي، وصولًا إلى (ماحدث) لمحمود حمزة، وأخيرًا استرجاع جميع المقرات التي تم تسليمها منذ أقل من شهرين، وبهدوء تام. وهذه سابقة لم تحدث مع أي تشكيل مسلح في ليبيا باستثناء الردع!
لكن دعك من هذا، وأجبني بصدق، عزيزي القارئ: كيف ترى مستقبلك داخل ليبيا؟
اسأل نفسك بصدق، وعندما تجد الإجابة، لا تخبر بها أحدًا!
فالأمل في ليبيا قد يجعلك تدخل ضمن خطة وزير الداخلية لتأمين العاصمة، وحينها لن تستطيع استرداده، فأنت لست قوة الردع الخاصة .