السياسي

ليبيا ميداس العصر الحديث

ليبيا ميداس العصر الحديث

ليبيا ميداس العصر الحديث

 

تتحدث الميثالوجيا الإغريقية عن ملك اسمه ميداس، منح القدرة على تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب، لكن هذه الهبة تحولت إلى نقمة بسبب الجشع وسوء الإدارة.

لم يتمكن ميداس من إدارة نقمته المتنكرة في صورة نعمة، فبدأ أولا بتحويل الأحجار إلى ذهب، ولتزيد ثروته حول الثمار والأشجار، ثم الطعام والشراب، حتى كاد يموت جوعا وعطشا، فالذهب يغني من الفقر ولا يغني من الجوع.

وللمبالغة في التحذير من الجشع، تحكي الأسطورة عن ألم ميداس وحزنه عندما احتضنته ابنته لمواساته، ولكنها تحولت إلى تمثال ذهبي هي الأخرى، ليندم بعدها ميداس على جشعه وجهله ويطلب التوبة من آلهته التي منحته نعمة لم يحسن إدارتها.

اليوم، تقدم ليبيا نموذجا معاصرا لهذه المفارقة، ثروة نفطية هائلة تتحول من أداة مفترضة للنعمة والرخاء، إلى وقود لا ينضب للصراع، حيث تهدر الموارد بسبب غياب الحكمة والرؤية.

تجسد ليبيا بواقعها المرير صورة لا تبعد كثيرا عن لعنة ميداس، فامتلاكها أحد أكبر احتياطيات النفط في إفريقيا والعالم؛ لم يترجم إلى تنمية، بل أصبح مصدرا للانقسام، ورغم السيطرة الصورية للمؤسسة الوطنية للنفط على القطاع، إلا أن "الذهب الأسود" تحول إلى أداة في يد المجموعات المسلحة والحكومات المتنافسة، حيث يتورط كل من هم في السلطة اليوم –شرقا وغربا- في شبكات التهريب المعقدة، الخفية والظاهرة، ولا يزيد دور المؤسسة عن لعب دور القواد لهؤلاء اللصوص. 

في عام 1955، اكتشفت شركة إيسو الأمريكية أول بئر نفطي في الصحراء الليبية، وبحلول 1959، أعلن عن حقل السرير العملاق، وبدأ الإنتاج الفعلي عام 1961، لتدخل ليبيا عصر النفط، وتتحول من دولة فقيرة تعيش على المساعدات، إلى أحد أكبر مصدري النفط في إفريقيا، وبحلول 1969، وصل الإنتاج إلى 3 ملايين برميل يوميا، وبدأت عجلة التنمية في الدوران، ببطء ولكن بفاعلية، ولكن هذه الحقبة لم تدم طويلا، حيث اغتال القذافي أحلام الليبيين في التقدم والتنمية بانقلابه على النظام الملكي عام 1969، فتحول النفط من نعمة تنقذ الليبيين من الفقر وتنقلهم إلى مصاف الدول المتقدمة؛ إلى سلاح سياسي يستغله رأس النظام الجديد في رسم صورة الفارس والقائد والحكيم وحتى ملك الملوك لنفسه.

وبدلا من أن يستغل القذافي ثروات البلاد في التعليم والتنمية، استغلها في دعم حركات التمرد في العالم، وفي زعزعة الاستقرار في الدول التي يختلف مع قادتها، وأنفقت الملايين من الدولارات للترويج لـ"لقائد الثورة"، وبناء صوته كمناهض للغرب وللإمبريالية والرجعية والتوسعية الاستعمارية، عبر خطط وخطابات ومؤامرات ممولة بالنفط.

ورغم إهدار المليارات من إيرادات النفط إلا أن ليبيا لم تغادر تصنيف الدول المتأخرة والمتخلفة، ولم يرتق الكثير من الليبيين عن خط الفقر، فساهم ذلك في إيقاد جذوة الثورة التي أطاحت بالعقيد وحكمه في 2011، ولكن الثورة وبعد 14 عاما من اندلاعها لم تنجح حيث فشل العقيد، بل زادت الأمر سوءا، وجعلت بعض الليبيين – حتى من أنصارها- يقولون (ما أبهاك يا مرت بوي الأولى!). 

فقد نجحت الثورة في الإطاحة بالقذافي، لكنها فتحت باب الصراع على مصراعيه للراغبين في تقاسم تركته، وكما حولت الهبة ميداس إلى أغنى الأغنياء بتحويله كل شيء إلى ذهب، فقد حول النفط آلاف الليبيين إلى أغنياء، وكما فشل الجشع ميداس في إدارة ثروته ونعمته، سيفشل هؤلاء لا محالة، ولكن المفارقة أن فشل ميداس لم يؤثر إلا عليه وعلى أقرب الناس له، أما فشل قادتنا وأثريائنا فسيقضي على ما تبقى من البلاد ويقضي علينا معها.

فتهريب النفط والوقود وصل إلى حد غير قابل للتصديق، حتى أن بعض التقارير الدولية تقدر خسائر ليبيا بـ5 مليار دولار سنويا، بسبب التهريب وحده، هذا دون الخوض في الشركات الرسمية كشركة (أركنو) سيئة السمعة، التي يديرها أبناء حفتر في الشرق بالتواطؤ مع بعض أطراف الحكومة في الغرب والتي بدأت – ووفقا لتقارير دولية منشورة وموثقة- بسحب البساط من تحت المؤسسة الوطنية للنفط نفسها، حيث تبيع الشركة شحنات ضخمة من النفط عبر موانئ الدولة الرسمية دون وجود سجلات تظهر أين تذهب أموال هذه الشحنات ومن يستفيد منها.

وكما استخدم القذافي النفط لتمويل "ثورات وهمية"، بينما عاش الليبيون تحت خط الفقر ببنية تحتية متهالكة؛ تحول النفط بعد 2011 إلى أداة لتمويل الحروب وخلق صور براقة لقادة التنمية والإعمار، بينما ما زال الشعب يعيش تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.

 

النفط الليبي – كحالته في عهد القذافي – ما زال أداة في يد النخب لتمويل الصراع، لا التنمية، وفشلت الدولة في تحويل "الذهب الأسود" إلى أداة للسلام، فتحولت حقوله إلى شواهد لقبور أحلامنا في حياة كريمة على أرضنا اللعينة، فليبيا اليوم تشبه مريضا غنيا يموت جوعا بجوار كنزه، تماما كميداس الذي حول طعامه إلى ذهب فلم يجد ما يأكل.