اجتماعي

كيف دعمت الدولة الطلاق في ليبيا؟!

 كيف دعمت الدولة الطلاق في ليبيا؟!

 كيف دعمت الدولة الطلاق في ليبيا؟!

 

قبل فترة ليست ببعيدة، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور ظهرت فيه فتاة في مقتبل العمر، تروي تفاصيل مأساوية لزيجة انتهت بالطلاق، قبل أن تبدأ ضحية من آلاف ضحايا منحة الزواج ، القصة كانت أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث أوضحت الفتاة في حديثها أنه علّقها، ولم يوافق على الطلاق إلا بشرط أن تعيد له حصته من المنحة، والبالغة 20 ألف دينار ليبي. لا أحد كان يتخيل أن هذا المبلغ البسيط يمكن أن يكون سببًا لتحطيم حياة شخص. قصة محزنة، لكنها تكشف عن الوجه الآخر للمنحة التي بدأت كحل اقتصادي للشباب، لكنها انتهت بكارثة اجتماعية ونفسية للكثيرين.

دعونا نبدأ بسرد الأحداث تباعًا أولاً بأول بخصوص هذه المنحة.

في عام 2021، قبل أربع سنوات، أطلقت حكومة الوحدة الوطنية الليبية مبادرة منحة الزواج بقيمة 40 ألف دينار ليبي لكل زوجين، وكان الهدف تشجيع الشباب على الزواج وتخفيف الأعباء المالية المرتبطة به. لكن، بدلاً من تحقيق الاستقرار الأسري، أدت هذه الخطوة إلى نتائج عكسية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت هذه المبادرة مدروسة؟

لتشجيع الشباب على الزواج عبر هذه المنحة المقسمة بين العروسين بالتساوي، دون شروط حقيقية سوى إثبات نية الزواج ووجود عقد النكاح.

لكن ما حدث لم يكن دعمًا اجتماعيًا بقدر ما كان كارثيًا لتمزيق النسيج الأسري وزعزعة التوازن النفسي للجنسين والاجتماعي. سرعان ما تحولت هذه المنحة إلى مشروع للربح السريع، صار فيها الزواج صفقة مالية مؤقتة تنتهي غالبًا بالطلاق بمجرد قبض المبلغ، فظهرت الزيجات الشكلية دون إقامة مظاهر لهذا الزواج، وعقود وزواج قاصرات كأننا في مسلسل درامي، وامتلأت المحاكم بملفات الطلاق والتي كانت بالجملة ، وكأننا دخلنا في فجوة زمنية يمكن أن نطلق عليها اسم “الزواج الاستثماري والطلاق المدعوم حكوميًا”.

وفي ذات العام، انتقد المستشار محمد الحافي، رئيس المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء، في خطاب وجهه إلى رئيس حكومة عبد الحميد الدبيبة.

وقال الحافي في كتابه:

((لاحظنا في الآونة الأخيرة إقبالًا منقطع النظير من الشباب على إبرام عقود الزواج ليس من أجل تحقيق الأغراض التي ابتغاها الشرع الإسلامي ومقاصده، أو حتى التي أردتم الوصول إليها، وقد يكون الغرض والنية المبيّتة لهؤلاء هو إبرام هذه العقود للحصول على منحة العشرون ألفًا المقررة لكل طرف، وهو ما سيؤدي إلى آثار سلبية ناجمة عن التسرع في اتخاذ قرار الزواج لغرض الحصول على المنحة قبل فوات الأوان، وسوف ينجم عنه تكدس المحاكم بقضايا طلب الطلاق)) وقد اقترح السيد الحافي إعداد مشروع قانون، وكانت كلماته تحاكي المستقبل.

هذه المنحة لم تقتصر على تأثيراتها السلبية على البالغين فقط، بل كان لها أيضًا تأثير مباشر على الفتيات القاصرات.

وبحسب التقرير الذي نشره موقع ((العربي الجديد)) في 10 سبتمبر 2023، تم إحصاء 940 حالة زواج لفتيات قاصرات في عام 2021، وهو رقم مقلق مقارنة بالسنوات السابقة، حيث كانت حالات الزواج تتراوح في المتوسط حوالي 40 ألف حالة سنويًا، وفقًا لما صرحت به مديرة إدارة شؤون الزواج في صندوق تيسير الزواج، نسرين بن نوبة. وتكشف هذه الزيادة عن ظاهرة صادمة من زواج الفتيات القاصرات اللواتي لم يكن لديهن الوعي الكافي بشأن أبعاد هذه القرارات ، وصرح أيضًا السيد شاكر ياسين محمد، في نفس التقرير، وهو عضو في إدارة المحاماة العامة بطبرق، أن نسبة حالات الطلاق المسجلة في المحاكم الليبية عام 2021 تراوحت بين 30% و40% من إجمالي حالات الزواج، مقارنةً بالسنوات السابقة.

هذا النوع من الزواج لم يحقق أيًّا من أهدافه الأساسية، بل زاد من معاناة الفتيات وجعلهن يعانين من أزمات نفسية حادة نتيجة لانهيار العلاقات الزوجية، وآثار نفسية واجتماعية سلبية أيضًا على الفتيات القاصرات اللاتي تعرضن لزيجات غير مستقرة انتهت بالطلاق السريع ، العديد منهن واجهن صدمات نفسية نتيجة الاستغلال والوصم الاجتماعي المرتبط بالطلاق في سن مبكرة ، كما أن بعض الشباب الذين دخلوا في هذه الزيجات السريعة واجهوا تحديات نفسية واقتصادية نتيجة الالتزامات المالية والأسرية غير المتوقعة ، لهذا لم يكن غريبًا أن يتحول الزواج إلى وسيلة للحصول على المال بدل أن يكون ميثاقًا غليظًا لبناء أسرة.فقد أقدمت فئة من الشباب على التلاعب بالمبادرة، تزوجوا شكليًا، اقتسموا المبلغ، وذهب كلٌّ في سبيله دون أدنى مسؤولية.

بعض الفتيات تعرضن لصدمة نفسية حادة بعد أن اكتشفن أن أزواجهن لم تكن نيتهم سوى تحصيل المال، منهن من لم يُقم بها زوجها إطلاقًا، ومنهن من أُجبرت على التنازل عن نصيبها من المنحة مقابل الطلاق، ليُضاف إلى وصمة ((المطلقة)) التي أصبحت في مجتمعنا حكمًا قاسيًا أشبه بالعقوبة الاجتماعية التي لا ترحم، وكأن الطلاق جريمة لا تجربة فاشلة أو نتيجة لظلم.

 هذا القرار في حقيقة الأمر، والواضح أنه لم يراعِ الواقع الذي نعيش فيه، ولا التحديات النفسية والجوانب القانونية والاجتماعية، جاء كخطوة عشوائية غير مدروسة، فتحت الباب على مصراعيه أمام التلاعب بالمبادئ الأسرية، وتسليع العلاقة الزوجية ، ما فعلته الحكومة هو أنها ضخّت المليارات في مبادرة بلا خطة، بلا رقابة، بلا وعي حقيقي بأثرها طويل المدى. فبدل أن تبني أسرًا متماسكة، ساهمت في تشتيت الآلاف من الفتيات والشباب، وجعلت الطمع هو المحرك الأول لعقود الزواج.

لا بد من الاعتراف بأن فشل السياسات الاجتماعية قد يكون أكثر تدميرًا من فشل السياسات الاقتصادية ، نحن بحاجة إلى دولة تدرك أن المجتمع لا يُبنى بالدينار فقط، بل بالوعي، بالقيم، وبالقانون الرادع الذي يسبق القرار لا يتبعه ، منحة الزواج في ليبيا كانت درسًا قاسيًا جدًا، ليس فقط في كيفية إهدار المال العام، بل في كيف تُصنع القرارات المرتجلة ، والناتج: أجيال محطمة، ومحاكم مكتظة بقضايا الطلاق.

بعد مرور ما يقارب الأربع سنوات من صرف أول مليار للزواج، يتضح لنا الكوارث الاجتماعية ونسب الطلاق التي ارتفعت وتشتت الأسر وضياع الأطفال نتيجة هذا الزواج المتسرع، وازدياد المشاكل الاجتماعية والنفسية التي خلفتها هذه القرارات ، حين تُطلق دولة قرارًا مؤثرًا بهذا الحجم دون دراسة اجتماعية، أو رقابة قانونية، أو حتى فهم للواقع، فالنتيجة كارثية،  فيجب على صنّاع القرار أن يعيدوا النظر في قراراتهم قبل أن يتم إفراغ خزائن الدولة وملء قاعات المحاكم ، لأن الزواج ليس مشروعًا مدعومًا، ولا صفقة عابرة.

 

ما يثير القلق أكثر هو إصرار بعض المسؤولين على عدم الاعتراف بالأزمة التي نشأت جراء هذه المنحة. فبدلًا من معالجة المشاكل بشكل جدي، يتم التمسك بتفسيرات واهية قد تضر أكثر مما تنفع، لا سيما وأن معظم هذه التداعيات تؤثر بشكل خاص على النساء والفتيات اللواتي يجدن أنفسهن في موقف معقد بعد الطلاق أو بعد فشل الزواج