السياسي

دولة اللصوص المتحدة!

دولة اللصوص المتحدة!

 

 دولة اللصوص المتحدة!

 

لم يعد خافيا على أحد أن الأيام التي نعيشها حاليا ربما تكون الأسوأ في تاريخ البلاد، فنحن نعيش تحت سطوة مجموعات مسلحة غير منضبطة، تحكمنا في ظل حكومتين تتنافسان في إثبات جدارتهما الوحيدة، وهي إتقان فن تبديد المال العام، فقبل أيام قليلة، كشف مصرف ليبيا المركزي عن تقريره المفصل لإنفاق حكومتي الشرق والغرب خلال الأشهر الماضية، ليعلن للشعب المنهك أن أمواله تنفق بلا حسيب ولا رقيب وبأرقام مفزعة ومرعبة، بينما يحاصر الجوع بيوت أبنائه، ويلوح الفقر كهوة سوداء مخيفة تقترب منه بلا هوادة لتبتلع كل يوم -بل كل ساعة- عددا من أبنائه وتضيفهم إلى قوائم الفقراء والمحتاجين. 

الأرقام لم تكن صادمةً لمن يعيشون في الواقع، بل كانت كشهادة وفاة غير رسمية لأحلامنا أن يعيش أبناؤنا واقعا أفضل من ذلك الذي عشناه، ففي ظل التوسع الجنوني في الإنفاق العسكري والأمني، والرواتب الضخمة والمزايا الاستثنائية، وملايين الموظفين على الورق، ومشاريع بعضها وهمي لا يسمن ولا يغني من جوع، وبعضها الآخر قد نخرها سوس الفساد فسقطت حتى قبل افتتاحها، يبقى السؤال الذي يطاردنا جميعا؛ أين تذهب ملياراتنا؟

ووسط هذه العاصفة الهوجاء، خرج محافظ البنك المركزي ليعلن عن لقاءات مبشرة عقدها مع رئيس حكومة غرب ليبيا "عبد الحميد الدبيبة"، ونظيره في الشرق "أسامة حماد"، ملمحا إلى "استعداد الطرفين لعقد اجتماع لتغليب مصلحة الوطن"، الكلام الذي بدا كبارقة أمل في ظلمة اليأس، سرعان ما تحول إلى عاصفة من السخرية، بعد إعلان حماد عن ما سماه "حزمة من الإصلاحات الاقتصادية" لم ينبس خلالها بكلمة عن المليارات المهدرة في المشاريع الوهمية، وفي صفقات الفساد التي توقع كل يوم شرقا وغربا، فبدلا عن ذلك يريد السيد حماد إصلاح منظومة الضرائب والجمارك التي لا تمثل حتى 1% من إيرادات الدولة، وكـأن المشكلة هي نقص الأموال، وليس هدرها في صفقات تدار كـ"مزاد علني" على حساب الشعب.

لقد اختلف الخصمان اللذان توليا رقابنا شرقا وغربا في كل شيء، ولم يتفقا إلا على سرقتنا، وكلما يسرق أحدهما أكثر، يزيد العجز على الدولة أكثر، فتعوضه بإضعاف الدينار وارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية، الذي تحول إلى سكين تذبح به أحلام العائلات الليبية.

وبينما يلهو المسؤولون بتقسيم الكعكة، يصارع المواطن لشراء رغيف خبز بدينار مرهق، وتشير تقارير دولية إلى أن نسبة التضخم تحقق زيادات بنسب غير مسبوقة، ولكن حكومتي الشرق والغرب تجيدان فقط لعب دور المنقذ من الآخر الأسوأ، حكومة الغرب تسرقنا باسم حمايتنا من الاستبداد وعسكرة الدولة، وحكومة الشرق تسرقنا باسم حمايتنا من الإرهاب والإخوان المسلمين، والسيناريو الأسود؛ وهو انهيار كامل للدولة؛ ما زال يلوح في أفقنا القريب إذا استمرت مليارات النفط في السير في طريقها إلى بلاعة الفساد التي لم تشبع ولن تشبع. 

في المشهد الأكثر إيلاما، يبدو أن الشعب الليبي قرر أن يساهم في مأساته ببراعة، فبينما تنهب أمواله، وتسرق أحلام أطفاله، ينشغل بجدل عقيم حول في دوري كرة القدم، أو يعلق بنهم وشماتة على اعتقالات سياسية تدار كمسرحية أمنية، والسؤال الذي يزعج الضمير؛ أين الغضب الشعبي الذي يطالب بمحاسبة سارقي القوت؟ وكيف قبل الليبيون أن تتحول حياتهم إلى مباراة بين سراق يتبارون في سرقة ما تبقى من الوطن؟

اللافت أن التاريخ الليبي يعيد نفسه بفجاجة مستفزة؛ فكلما تخلصت البلاد من سارق، إلا وسلمت نفسها لسارق آخر، هذه المرة هو أشد دهاء وخبرة من السارق الذي قبله، وكما ترحم الليبيون على أيام العقيد التي كانت السرقات فيها بالملايين، وكما ترحموا على أيام حكومات الإنقاذ والوفاق والشقاق والنفاق التي كانت السرقات فيها بعشرات الملايين، يحذرنا قادتنا الآن –رغم تجاوز سرقاتهم المليارات- من مصير أسوأ إذا هم رحلوا، ولعل كلامهم صحيح، فهم يسرقون المستقبل، وعند نفاذه ورحيلهم، لن يجد القادم ما يسرق فيسرق الحاضر والماضي ويطردنا حتى من بيوتنا، ولا أظنه سيكون لنا ظالما، فـ"على نفسها جنت براقش".