هل مجتمنا ضد البناء؟ و يحب الهدم!
في الوقتِ الذي نسمعُ فيهِ عن أموالٍ ضخمةٍ تدخل لخزانةِ الدولةِ ، مقابلَ بيعِ ذلكَ الكنزِ الأسودِ - الذي إلى الآنَ لم ننعم بوجودهِ في أعماقِ أرضنا - نرى كثيرٌ من المدنِ ما زالت خاويةً على عروشها ، وطرق متهالكةً تحصدُ الأرواحُ كلَ يومٍ ، وتنوع في أزماتٍ تُضيّقُ الخناقَ على المواطنِ ، الذي لم يعد يمتلكُ أيَ فسحةِ أملٍ في التغييرِ .
ثمةَ وعودٌ طافت على مسامعنا قبلَ أكثرَ من عشر سنواتٍ ، كموسيقى رومانسيةٍ ، في ليلةٍ خريفيةٍ ، نُثرت فيها الآمالُ على نُصبِ المستقبلِ ، آمال بقربِ ربيع عظيمٍ لم يسبق لنا وأن رأينا لهُ مثيلٌ ، حتى خُيّلَ لنا بإمكانيةِ الخلودِ بعدَ أن اكتسبت الحياةُ لونًا ورديًا ، لكن لم يَفيَ أصحابُ تلكَ الوعودِ بأيِ منها ، ولم يأتيَ ذلكَ الربيعِ المزعومِ ، بل اكتسبت الحياة لونا قاتمًا، و لامسنا الحضيض بعد سقطةٍ مدروسة ، ارتطمت فيها آمالُ الشعبِ بقاع الوهم و التزييف.
يقول "غوستاف لوبون" في كتابهِ " السننَ النفسيةَ لتطورِ الأممِ " ، والذي تحدّثَ فيهِ عن أسبابِ سقوطِ الحضاراتِ السابقةِ : " إنَ الشعوبَ تسقطُ دُوَالِها، و تنهار الامبراطوريات بعدَ تمرغها في الخيراتِ حدَ الأذنينِ ، تاركينَ البناءَ بعدُ أن أشغلهم اللهوَ والتمتعَ بالملذاتِ " ، لكنَ هذا لم يحدث لنا أيضا ، فلم تكن لدينا حضارة ، و لم نذق طعمًا لخيراتنا!
وهناكَ منطقٌ يعتنقُ مبدأ يقول : " إن الأوقاتَ الصعبةَ تُخرجُ رجالاً يصنعونَ أوقاتٌ باذخةٌ النعمِ " ، فهل يوجدُ أصعبَ مما نعيشهُ الآنَ ؟ ، وبرغمَ ذلكَ لم نرى ذلكَ النوعَ من الرجالِ ، بل ابتلينا برجالا لا يصنعونَ شيئا سوى الدمارِ .
ثمةَ بارقةُ أملٍ في فهمِ ما يحدثُ لنا ، يمكنَ أن نستنجهُ من قولِ ابن خلدون الذي قالَ فيما معناهُ : " عندما تسقطُ الأنظمةُ - بغضِ النظرِ عن كونها صالحةً أو لا - ، فإن ثمةَ ثُلةٌ فاسدةٌ من المجتمعِ ستطفو على السطحِ ، ويُكممَ صوتُ الحقِ ، ويُعدمَ أصحابُ العقولِ ، ويُنفى كل ذي كفاءةٍ .
هذهِ إذًا ديناميكية الفسادِ ، حيثُ إنَ الفاسدونَ وعلى مرِ التاريخِ ينتهجونَ المنهجيةُ ذاتها ، يطفونَ على سطحِ المناصبِ القياديةِ بتكتلاتهم القوية ، المستغلةَ لغيابِ الدولةِ في لحظةٍ معينةٍ ، وينبذونَ كل ذي عقلِ رشيد ، أو صوتٍ يصدحُ بالحقِ والحقيقةِ . لتبدأ بعدها مرحلةً طويلةً ، ومضنيةً ، جائرةً ، للتلاعبِ بمقدراتِ الشعوبِ ، وبعثرةُ أموالهم ، وهتكَ عرضِ أحلامهم، وإلغاءُ آداميتهم . ولا يجدونَ حرجٌ في إذلالِ أنفسهم لكلّ من قد يمدُ عمر بقائهم على ذلكَ السطحِ المستباحِ عنوةِ أطولِ فترةٍ ممكنةٍ .
ما الحلُ إذا ؟
عندما استدعى سليمان القانوني المعماريُ العظيم " سنان أغا " ، من أجلِ هدمِ إحدى السراياتِ القديمةِ ، وإنشاءُ واحدةٍ جديدةٍ في مكانها ، قامَ باستجلابِ مجموعةِ عمالِ لغرضِ تنفيذِ عمليةِ الهدمِ ، وعندما حانَ وقتُ البناءِ استبدلهم بآخرينَ .
إذا عقلية الهدمِ لا يمكنُ لها أن تُسهمَ في البناءِ أو تحويلِ الواقعِ للأفضلِ . فنحنُ أمامَ عقليةِ الفاسدِ أو الهادمِ ، المتجذرةِ في المجتمعِ منذُ سنواتِ طوالٍ حتى أصبحت ثقافةٌ سائدةٌ فيهِ . وإذا ما مثلنا الفسادُ بالبناءِ الضخمِ ، فإن أسسهُ الثابتةَ هيَ الجهويةُ ، والقبليةُ ، والعنصريةُ . أما لُبِه هوَ المصلحةُ التي إذا ما حضرت غابت كلَ تلكَ الانتماءاتِ ، فأعداءُ الأمسِ يصبحونَ أصدقاءَ اليومِ في لمحِ البصرُ ، إذا كانت تلكَ الصداقةِ تُفضي إلى ملءِ الجيوبِ أو تَسيّدِ منصبٍ جديدٍ .
إن عِظمَ المشكلةِ يحتاجُ لحلٍ يكونُ في حجمِ عظمتها وفي ذاتِ المستوى . فإنهُ من السهلِ إزاحة الفاسدينَ ، لكن يبقى إزالةَ العقليةِ الفاسدةِ بكلِ متطلباتِ وجودها هوَ التحدي العظيمُ ، ويحتاجَ لتكاتفِ جهودِ الجميعِ ، التي لن تنضجَ ثمارها وتؤتي أكلها إلا بعدَ مرورِ سنينَ ، وقد لا ننالُ نحنُ نصيبُ من مذاقها الرائع ، لكن على الأقلِ سنضمنُ حياةً أفضلَ للأجيالِ القادمةِ .
أنا لستُ عالمةَ اجتماعٍ لأحددَ منهجيةَ النهوضِ ، لكنني أؤمنُ بحتميةِ النتائجِ التي يأتي بها الوعيُ بكافةِ أنواعهِ .
فإذا كانَ تغيرُ المزاجِ العقليِ ، والصفاتُ النفسيةُ لأمةِ ما بسببِ انحطاطِ الأخلاقِ - الذي عادةَ ما تدعمهُ تلكَ الطغمةِ الفاسدةِ يؤدي إلى سقوطها - ، فإنهُ إذا ما حدثَ العكسُ فبكلّ تأكيد سنحصلُ على مبتغانا ، فقط إذا حدثَ وانتصرنا في معركةِ الوعيِ التي باتت حتميةً و ليست اختيارية، لأنها تمسُ صميمَ وجودنا